07-أغسطس-2020

الوطن في ضمير الأنظمة القمعية يعني "السيد الرئيس" (فيسبوك)

تعلمنا من الفلسفة وحكمائها هذه القضية الواضحة "أن الوجود خير والعدم شر". إلّا أن أدبياتنا السياسية لها رأي آخر، وبالأصح أنظمتنا السياسية لها القول الفصل في معنى الوجود والعدم، و الخير والشر. لذلك تخبرنا سيرة الطغاة العرب أن معنى الوجود متحقق في شخص الرئيس، وأن معنى العدم متحقق في البلاد والعباد. وبهذا يغدو الرئيس خيرًا محضًا، وتغدو البلاد والعباد شرًا محضًا. هذه ليست نكتة ولا قصيدة شعرية، وليس عيبًا على الإطلاق حينما نتمثّل هذه الحقيقة شعريًا، لأن الشعر، على الأقل، أصدق من مقولات الذهن، وأقرب إلى تمثيل الحقيقة. وبالطبع لا نقصد الشعراء المدّاحين ومدى إعجابهم بـ"رجولة" صدام حسين، وإنما نقصد ذلك الشعر الذي يسكن العالم بلا مقولات مسبقة. فقضايانا أكبر من أن يستوعبها مفهوم، رغم أهميته. إننا نحتاج إلى طريقة للتعبير لما لا يمكن التعبير عنه!

الوطن في ضمير الأنظمة القمعية يعني "السيد الرئيس" حيث يغدو ماضيه وحاضره ومستقبله مرهونًا بوجود الدكتاتور

على أي حال، تبدو عبارة "يعيش الرئيس ويموت الوطن" هي الترجمة الأمينة لواقعنا السياسي والاجتماعي، وتوضح لنا ما موجود في أولويات الأنظمة العربية. أما الوطن لا نعثر عليه في سجل الأولويات، بل في الهوامش والزوايا المنسية. الوطن في ضمير الأنظمة القمعية يعني "السيد الرئيس". وحين يكابر الطاغية على عدم الاستسلام، ويستثمر قوة التحشيد الجماهيري، ويستهلك اللغة في صياغات ميتة ومخادعة ومكرّرة حد الإدمان لإقناع الناس بأهمية الوطن، كل هذه الصياغات هي تصريفات مواربة لعبارة محدَّدَة يعني بها "أنا الوطن". يغدو ماضي الوطن وحاضره ومستقبله، في منطقتنا العربية، مرهونًا بوجود الدكتاتور؛ ما إن يسقط حتّى يتهاوى البنيان كقطع الدومينو، ويتراءى للقاصي والداني حقيقة مفادها: لم يكن هنالك أي وطن، وإنما شخص واحد ربط هذه الرقعة الجغرافية بمصيره. وعلى الأجيال اللاحقة دفع الأثمان الباهظة لاسترجاع بلدها المنهوب، وتبذل لهذا الغرض جهودًا استثنائية لتسديد الديون وبناء المؤسسات وبث الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية من جديد.

اقرأ/ي أيضًا: دولة الدم المستباح ورحلة الحياة المقدسة

هل يعني لبنان شيئًا للقائمين عليه؟ أشك في ذلك. ربما برع بعض الساسة اللبنانيين وأجهدوا أنفسهم لإثبات اختلافهم الجيني عن العرب! هذا هو المهم في نظر هؤلاء، أما الديون الثقيلة، وحجم الفوائد المصرفية المهولة، والتقسيم الطائفي البغيض، ووقوف البلد على شفا حفرة من الانهيار الاقتصادي غير مهم على الإطلاق. وعلى الطريقة العراقية الجديدة، سيضمن النائب المنتهية مدته حياة هانئة وعيش رغيد في إحدى الضواحي الفرنسية، أما الديون ستلاحق الجيل الجديد. إن التركة الوحيدة التي ترثها أجيالنا اللاحقة دائمًا تكون على شكل صناديق مُحمّلة بالخراب السياسي والاقتصادي والعمراني، كما لو أننا وُلدنا في هذه البقعة الجغرافية لندفع الثمن.

قدم صدام حسين العراق قربانًا لرغباته الجامحة. ولم يكن العراق في ضمير هذا الرجل سوى أضحية يقدمها كـ"ذبح عظيم" مقابلًا لوجوده في السلطة. إذا ذهب صدام حسين من يركب العربة المُذهّبَة في أعياده الشخصية؟ غير أن الوديعة رُدّت إلى أهلها؛ إذ سارع "الفاتحون" الأمريكان بنقلها إلى موطنهم. على العراق والعراقيين أن يدفعوا الثمن غاليًا: إمّا خراب العراق أو بقاء صدام حسين على كرسي الحكم. لقد أتعب صدام حسين الوسطاء في الحرب العراقية الإيرانية، ولم يهتدوا إلى سبيل حول الهدف من استمرارية هذه الحرب العبثية، وقد تعمّد، بشهادة حامد الجبوري وصلاح عمر العلي، في إطالة أمد الحرب. ومن طرائف صدام حسين الثقيلة على النفس أنه طالب باسترجاع الجزر الإمارتية كمقابل لوقف إطلاق النار! فمن هنا اتضح للقريب والبعيد ألاعيب صدام ومماطلاته لاستمرار أمد الحرب. لقد كان قلقًا من ضباطه الكبار؛ أين سيذهب هؤلاء بعد نهاية الحرب، مؤكد سينقبلون عليه.. هذا ما كان يعشعش في ضمير "القائد الضرورة"، ثم ماذا بعد؟ اعترف باتفاقية الجزائر التي أشعل نيران الحرب بسببها: أعطى جزءًا من شط العرب، ثم حارب ثمان سنوات لعدم الاعتراف بها، وفي النهاية أقر بالاتفاقية بعد ثمان سنوات، بعد أن كبّدت البلد نصف ترليون دولار، ومليون شهيد وجريح. وبما أن وجوده مٌقدم على وجود العراق وأمنه العام ورخاء مواطنيه، ينبغي على العراقيين أن يستعدوا لسيناريو جديد، وهذه المرة احتلال الكويت ونهبها، وعلى الجيش العراقي أن يتجرّع المر في أكبر عملية انسحاب مذلّة في تاريخه، كبّدته خسائرَ فادحة أثر قرار أحمق من شخص الرئيس بلا خطة مدروسة للانسحاب، فتحولت الآليات العسكرية إلى قطع من الخردة جرّاء الضربات الغادرة والجبانة من الطيران الأمريكي. وعلى الطريقة الهوليودية استعرض الأمريكان معركتهم اللا متكافئة وهم يقصفون القطعات المنسحبة كما لو أنهم في كرنفال بهيج. وكانت خيمة صفوان خاتمة الذل والانكسار لرئيس ضحّى بكرامة البلد لغرض البقاء على كرسيه العزيز على قلبه. ومنذ ذلك الحين، مارس الأمريكان كل صنوف الإذلال على الرئيس المهزوم؛ لم تسلم حتى غرفة نومه من لجان التفتيش الدولية، وتم خلع رتبته العسكرية، المُزيَّفة بالأصل، وحُرّمت عليه للأبد، ولا يحق للعراق التحكّم بأجوائه، كما ولا يحق للعراقيين أن يعيشوا بسلام؛ عليهم أن يأكلوا الجريش ونخالة الطحين، وأرخص أنواع التمور (لقد قاتلت ببسالة آنذاك ليبقى بنطالي محافظًا على شكله طيلة ثلاثة سنوات!) وفي أيام القحط وقسوة الحصار المُذل المفروض على الشعب العراقي، كان رئيسنا المُهان يجدد العهد للشعب العراقي بحفلاته الباذخة، وعلى العراقيين أن يبتهجوا ويصرخوا بصوت واحد "عيد ميلاد سعيد يا بطل الأمة العربية".

لكنّ بقايا الدكتاتور تطاردنا وتعكس لنا تجلّياتها في حجم التركة الثقيلة؛ بنى تحتية متهالكة، مؤسسات شبه معدومة، ديون متراكمة، نسيج اجتماعي مُمَزَّق، وبقايا من أيتام وأرامل ومعاقين وخريجي سجون يشكّلون مشروعًا مستقبليًا لكل صنوف العاهات الاجتماعية. عند الوصول إلى نقطة الأمان، عبر إزاحة الدكتاتور، يدخل النظام السياسي الجديد في معركة عبثية، ليست بالضرورة معركة معلومة سلفًا، بل تأتي بغتة لإرجاع البلد إلى المربع الأول. وكأن حلم صدام حسين يتحقق عبر دخول العراق في نفق مظلم آخر لا نعلم نهاياته حتى هذه اللحظة. وإن لم يكن بد من المعركة الداخلية، ينبغي، إذن، دفع التكاليف وتأجير المرتزقة وشراء الأسلحة الفتّاكة. بمعنى، لكل بلد من البلدان العربية دور مرسوم لا يتخطّاه؛ ثمّة بلدان تدفع اتاوات، وأخرى تشن الحروب الوحشية على شعوبها، والنتيجة واحدة: بقائهم في السلطة. على السعودية أن تدفع نصف ترليون دولار إن كان يرغب نظامها في الصمود والمطاولة، وبلا شك أن ثروة أجيال المستقبل ليست بذات أهمية، ما يهم هو وجود النظام، لأنه أقدس من البلاد والعباد.

 وبهذه المقدمة، لا يهم إطلاق صاروخ فتّاك بمئات الملايين على بيت خرب في إحدى قرى اليمن الفقيرة، ما يهم هو حيوية اقتصاد الحرب وقيمة الإنسان مضروبة بسعر الصاروخ. كلما زاد عدد الموتى ازدادت قيمتهم لدى أرباب السلاح. عليك أن تتصور قيمة الصارخ وقيمة المشتري السعودي وقيمة الميت، ستحصل على معادلة كالتالي: سلاح مكلف، ومستهلك "كريم"، يدفع بسخاء لا يبخل في الدفع، وشركات تراكم أرباحها بواسطة التدمير والموت، بدلًا من الاستثمار في البنى التحتية، وبلد مهدّم على رؤوس سكّانه بحاجة إلى مئات المليارات لإرجاعه من جديد. لكنّه لا يرجع كما الأول؛ عليه أن ينتظر عقدين أو ثلاثة على الأقل ليتمزّق نسيجه الاجتماعي، ويدخل في حرب أهلية، وضمان نخب تابعة للخارج. الشرط الأساس لإعادة الحياة يرتبط بالجدوى المترتبة من إرجاع البلد: هل تقتضي المصلحة، مثلًا بإرجاع سوريا كما السابق؟ لا يوجد منطق مقنع يدفعنا للتصديق بإعادة سوريا، خصوصًا أن بشار الأسد يعتقد أن وجوده مُقدَمًَا على وجود الوطن السوري، وأن روسيا قدمت الخدمات الجليلة لحليفها ومنعته من السقوط الرمزي على الأقل! أمّا البلد يأتي ويذهب! لكن الرئيس، ضمن المواصفات العربية، يصعب الحصول عليه. ربما يأتي رئيس "لا عنفي" يؤمّن البلاد والعباد من شر الطغيان والحروب، وهذا المنطق لا يصب في صالح إسرائيل، ذلك أن الثمن ينبغي أن يكون سوريا وشعبها وتاريخها. وبالطبع لا نعتقد بحصر المشكلة في شخص الأسد، لكنّه أحد العناصر الأساسية لما وصل إليه الأمر. من يعلم، قد يحمل المستقبل أخبارًا إضافية لمراكمة الخراب ويجري التفاوض على جزء من الأراضي السورية مقابل بقاء الرئيس في الحفظ والصون.

بقايا الدكتاتور تطاردنا وتعكس لنا تجلّياتها في حجم التركة الثقيلة؛ بنى تحتية متهالكة، مؤسسات شبه معدومة، ديون متراكمة، نسيج اجتماعي مُمَزَّق

هل ثمّة مفارقة موجعة كهذه، أن تساوم بوجود بلدك وتاريخه الحضاري ومواطنيه مقابل وجودك على كرسي الحكم؟ هذا ما يحصل في منطقتنا العربية بالضبط، ذلك أن الوجود خير والعدم شر، ورؤسائنا خير محض وما دونهما شرور، فيعيش الرئيس ويموت الوطن.

 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

ذاكرة الدم والاستبداد

صدام حسين والميليشيات في حلم واحد!