21-يونيو-2022
المثقف

كان الحزب السياسي هو الملاذ الأخير للمثقف (فيسبوك)

"قام عبد السلام عارف عند اقتحامه القصور الملكية في الرابع عشر من تموز 1958 بتسليم جثث الذين قتلهم من أركان النظام الملكي إلى الغوغاء، وأنا منهم وكنت في عشرينياتي، فمثلوا بها وعلقوها على الجدران والأعمدة وسحبوها في شوارع بغداد، ولم يستنكر أدباء ذلك الوقت من أساتذتنا هذا الفعل الغوغائي بل العكس نظموا مظاهرة تنادي بقتل المزيد". هادي العلوي، المرئي واللا مرئي في الأدب والسياسة.

عبارة "على المثقف أن يقلق السلطة" لم تعد تشكّل نواةً صلبة لحركة التغيير لا سيما في العراق. لم يكن للمثقف دور في التغيير إلا من حيث كونه مثقفًا أيديولوجيًا. ، وبدونه لا يمتلك أدنى تأثير في الرأي العام فيما يخص العمل السياسي تحديدًا.

المثقفون في الدولة العَلمانية، هم بدلاء عن رجال الدين، ويحتلون مساحة واسعة في الفضاء العام. غير أن منطقتنا العربية، وبالأخص العراق، لا زلت البيعة لرجال الدين والعشائر نافذة المفعول وتقوّض سلطة المثقف.

الأكثر خوفًا من غضب الجمهور العراقي هو المثقف

إن السلطة الشعبوية في العراق ليست سلطة هامشية على الإطلاق، وإنما تستمد شرعيتها ومراكز قوتها من سلطة رجل الدين والعشيرة. لذا أن المزاج الحاد والمتقلّب في الرأي العام العراقي تجاه المثقف لا يستند إلى تجارب تاريخية يتم من خلالها مسائلة المثقفين عن أدوارهم السياسية، بل هو خطاب يعبر عن "خصوصية" المجتمع العراقي التي تبدي نفورًا تجاه المثقف، إذ لا يمكن لهذا الأخير أن يزاحم السلطتين المذكورتين.

لا تتمتع سلطة الكلمة بذات الهيبة والنفوذ والمقبولية بين الأوساط الشعبية في بلدٍ ذي بنية اجتماعية تقليدية. حتى الأجيال الجديدة التي لم تعاصر الأحداث والمنعطفات السياسية الحادة ولم يتكون لديها وعي تاريخي بخصوص معضلة المثقف في العراق تستهويها تقليعة "نقد المثقف" التي تجد لها سوقًا رائجة في مواقع التواصل الاجتماعي. وعلى سبيل المثال، وليس الحصر، راجت هذه التقليعة أيضًا في انتفاضة تشرين منذ الأيام الأولى. كانت الأحكام والضربات الاستباقية حاضرة في المشهد التشريني ضد المثقف قبل أن يتفوّه هذا الأخير بأي كلمة أو يصدر منه أي نشاط مضاد لهذه الانتفاضة.

إن المثقف في العراق هو أكثر خوفًا من غضب الجمهور العراقي. بل لا يقوى حتى على التصريح بآرائه بشكل مباشر. وقد عمد بعض المثقفين على الغياب التام من مواقع التواصل الاجتماعي خوفًا من ظاهرة الغلو التي ترافق بعض الفئات الاجتماعية التي وجدت لها ملاذًا آمنًا في هذه المواقع.

 وهذا الغضب الجماهيري والنزوع الشديد التطرف تجاه المثقف العراقي لا ينتهي بتقويم أو إعادة صياغة أو تشكيل خطاب نقدي. بعبارة أخرى: إنه نزوع لا يتحرك ضمن أفق المعقولية بقدر ما هو يتحرك ضمن ذاكرة المجتمع التقليدي، الذي تمثل سلطة رجل الدين وشيخ القبيلة نواته الصلبة، حتى وإن لم يخضع ظاهريًا لمتبنياتها لكنه في العمق مأسورًا بها.

 ليس معيبًا أن نعيد النظر في تصوراتنا المسبقة، فقد نعثر على مثالية متوارية بين كلماتنا الحماسية. لذلك الهجوم المستمر على المثقفين، ولا أقصد السائرين في ركاب السلطة بالطبع، بحجة سلبيتهم ورخاوتهم، أظنها تنطوي على نوع من الإجحاف والمبالغة في تقدير المواقف. نعم للكلمة سلطتها وإغوائها وسحرها، بل جرحها الخاص الذي يترك أثرًا شاخصًا تمارسه على جمهورها الفقير!

 ومهما كان الشعور بالصالح العام الذي يحرك المثقفين، فسيبقى المثقفون، الذين نحسن بهم ظنًا على الأقل، لا يشكلون سوى جزرًا متباعدة أمام سلطة المد الشعبوي. ذلك المد العارم الذي لا يقبل إلّا بسلطة الغرائز والانفعالات.

قد يفهم من هذا الكلام على أنه دعوة لإجازة مفتوحة للمثقف العراقي. والحق أن المقصود من هذا كله هو الدور السياسي الذي يمكن أن يضطلع به المثقف، أي خروجه من اختصاصه الدقيق والاهتمام بالصالح العام. وهذا الأخير يمكن أن يترجمه المثقف من خلال اختصاصه الدقيق عبر إنتاج الفكر وفتح إمكانيات جديدة للحياة، وليس بالضرورة الانخراط في النشاطات السياسية، فهذه الأخيرة أضحت ماركة مسجلة للقوى الشعبوية وقادتها الذين يمثلون النواة الأساسية للمجتمع العراقي.

إن السلطة تنتشر في كل مسامات المجتمع، ويمكنه أن يقلق هذه السلطة بطرق مختلفة، وليست من ضمنها بالتأكيد الفعاليات السياسية والتظاهرات التي يقوم بها الشباب المتحمسون، الرافضون لفكرة المثقف من الأساس. هذه الفعاليات لم تعد المكان المناسب للمثقف للأسباب التي ذكرناها، إذ سيبقى دوره هامشيًا فيها.