يقول المفكر العسكري كارل فون كلاوزفيتز في كتابه عن الحرب، إن "الحرب وجه من وجوه السياسة"، وهي ليست فرضية بالطبع، بل نظرية علمية استطاع كلاوزفيتز عبرها دراسة الحروب بأبعادها وأهدافها المختلفة للوصول إلى قاسم مشترك من بينها هو أن تعثر السياسات والمفاوضات يستدعي قيام الحرب للوصول إلى الأهداف وتحقيق المصالح، وفي العصر الحديث يمكن ترجمة المناورات بأنها آليات آنية لحروب قادمة على مديات زمنية مختلفة، وللمناورات الحربية أبعاد استراتيجية وعسكرية، منها إظهار القوة العسكرية والتكنولوجية للبلد المناور الدفاعية منها والهجومية، وتعزيز مكانة الدول في المجتمع الدولي الذي يقود أو يشارك في الحروب الحالية، فضلًا عن كونها أوراق قوة تطرح على طاولة التفاوض بحكم المتغيرات المتسارعة والاحتمالات الخطرة المفتوحة، كذلك أن دولًا مهمة حليفة للقوى الكبرى مثل تركيا طرحت أسلحتها الحديثة المعلن عنها كورقة اعتماد لدى البيت الأبيض لحين وصول ترامب للسلطة، ذات الوقت شهدت المنطقة سباق تسليح دفاعي وقائي تحسبًا لامتدادات وتداعيات الصراع عليها، إذ تميز هذا العام منذ أيامه الأولى بسمة واضحة هي السلاح للتفاوض والردع والحرب تماشيًا مع الشعار الأبرز لبرنامج الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب "القوة لفرض السلام".
بداية، وفي صدارة الأخبار العالمية، أجرت الولايات المتحدة مناورات ثلاثية بين كلٍ من (أميركا، كوريا الجنوبية، اليابان) ما أثار غضب واستفزاز كل من الصين وكوريا الشمالية، إذ أعربت كوريا الشمالية عن رفضها لهذا المناورات تحت تبرير تهديد الأمن القومي في المنطقة لتستعرض ترسانتها البالستية فرط صوتية "هايبر سونيك"، الأمر الذي دعا الصين إلى الرد بمناوراتها الخاصة معلنة عن أجيال جديدة ومتطورة عن آلة الحرب الصينية، فضلًا عن اعتزام الصين إجراء مناورات عسكرية قريبًا مع الجانب الروسي في خليج عمان، وفي الوقت ذاته رصدت تايوان تهديدًا عسكريًا متمثلًا بدوريات قتالية للسفن الحربية الصينية، ومن الناتو، إذ أعلن نيته بإجراء مائة مناورة عسكرية خلال العام الجاري، في إشارة ضمنية إلى مخاطر إتساع الحرب الدائرة بين (روسيا وأوكرانيا) أو ولادة حروب وصراعات هجينة في أوروبا، وفي الشرق الأوسط تحديدًا، استهلت إيران المناورات الخاصة بهذا العام 2025 منذ الرابع من كانون الثاني/يناير بمناورات متعددة، الأولى مناورة (الرسول الأعظم 19 الدفاعية الهجومية) ومناورة (اقتدار 1401) الدفاعية لحماية المنشآت النووية، فضلًا عن إعلانها عن المدينة الصاروخية الدفاعية في باطن الأرض، تلتها تركيا بمناورات (الوطن الأزرق) في بحر إيجه، والبحر الأسود وشرق البحر المتوسط ومناورات (عنقاء الأناضول) بمشاركة قطر وأذربيجان وقبرص.. الخ من المناورات في المنطقة والعالم.
هذه المعطيات هي للاستدلال بصورة خاصة وليست للقياس، فالقياس افتراضًا يشير لحروب كبرى، وهذا ما يُستبعد سياسيًا على الأقل بهذه الفترة، بينما الاستدلالات كبيرة على استعراض العضلات العسكرية، إذ أنه بالأساس لا تقوم الحرب المباشرة بين العروش الكبرى، إنما تُمارس بالإنابة بين الدول الأقل تأثيرًا على المشهد أو من خلال القوى الانفصالية والجماعات المُتطرفة وربما سياسات الضغط القصوى التي مارستها الولايات المُتحدة على روسيا وإيران مثال على ذلك، لكن اللافت في الأمر هو صراع الممرات الاقتصادية كالحزام والطريق الصيني العالمي، مقابل مشروع الممر الاقتصادي الآسيوي الأوروبي المدعوم أميركيًا، ويضاف إلى ذلك؛ أن مراحل الهدنة والتفاوض الدائرة تمتاز بالهشاشة وهي عرضة للنقض والتقويض على وجه الخصوص.
إن تاريخ الحروب يستدل ويبرهن على أن الحروب كافة هي في الأساس توترات مؤجلة انفجرت وتصاعدت بسرعة، ناهيك عن معادلة القوة العسكرية والتحالفات والأطماع الاقتصادية التي تتكامل مع بعضها البعض، فتنتج عنها ساعة الصفر الحربية. إن شعار السلام الأميركي قد يحمل في أبعاده وتداعياته حروبًا أخرى في المنطقة، خاصة الشرق الأوسط، على اعتبار أن المزاج العالمي لا يكترث سوى للمصالح ولا ينظر إلى المستقبل بنظرة الهندسة السياسية، وهو في الحقيقة يبحث عن توازنات القوى لا عن حلول مستدامة، ما يُعرف بالتوازنات الحرجة، أما الدرس الذي تعلمته الإدارة الأميركية وحفظته جيدًا، هو درس الاتحاد السوفيتي عبر الكسندر أرباتوف المستشار الدبلوماسي لغورباتشوف قبيل تفكك الاتحاد، حين وجه رسالة للغرب قال فيها: "سنقدم لكم أسوأ خدمة، سنحرمكم من وجود عدو".