08-نوفمبر-2022
الانقلابات

إننا بحاجة إلى موازنة دقيقة وخاصة للمعضلة العراقية (فيسبوك)

"لقد دمرتم الحركة وجئتم بالجيش إلى السلطة وستنالون عقابكم"، بهذه الكلمات القاسية افتتح عبدالقادر إسماعيل عضو جمعية الأهالي مذكرته المرسلة لزميله كامل الجادرجي، والذي سيصبح لاحقًا وزيرًا للاقتصاد والاتصالات في حكومة الانقلاب الذي تزعمه الجنرال بكر صدقي قبل 86 عامًا، وبالتحديد في 29 تشرين الأول/أكتوبر 1936 عندما اجتاحت قواته العاصمة بغداد في الساعة 4 مساءً، مجبرة رئيس الوزراء ياسين الهاشمي على تقديم استقالته ومغادرة العراق مع صقور حكومته؛ وزير الداخلية رشيد عالي الكيلاني، ووزير الخارجية نوري السعيد، فيما لقي وزير الدفاع الفريق جعفر العسكري حتفه بيده عندما أرسل كمبعوث ملكي يحمل رسالة تتضمن أمرًا ملكيًا للجنرال المتمرد بالتوقف عن الزحف نحو بغداد! 

شهد العهد الملكي في العراق  تغيير في الحكومات لـ58 مرة

دخلت تلك الحركة التاريخ كأولى الانقلابات العسكرية في العراق والعالم العربي، وكلف على أثرها عضو جمعية الشعبية، الذراع السياسي لجماعة الأهالي حكمت سليمان بتشكيل الوزارة وجسدت منعطفًا خطيرًا وطارئًا على المشهد السياسي العراقي المتمثل باستلاب السلطة بالقوة، وقطعًا كان للفراغ السياسي الذي تركه رحيل الملك فيصل الأول دورًا كبيرًا في إدخال البلاد بحالة من التخبط نتيجة اندلاع الصراع بين نخبها السياسية والعسكرية، والتي سرعان ما حاصرت الملك الجديد قليل الخبرة بثلاث اتجاهات سياسية قومية متطرفة (الهاشمي – الكيلاني) قومية محافظة (السعيد – العسكري) وطنية عراقوية (حكمت سليمان – بكر صدقي) والتي نتج عن صراعاتها سلسلة من التمردات العشائرية المدفوعة، وما رافق ذلك من زيادة في الفئات المجتمعية الناقمة نتيجة تدهور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية ومن أهمها شيوخ العشائر والعمال والفلاحين، والبورجوازية الوطنية والمفصولين تعسفًا والشيوعيين، لتصل الأمور لذروتها، والتي لا تعنينا أحداثها، بقدر دلالاتها المتمثلة باستخدام القوة المسلحة كوسيلة لتحقيق غايات سلطوية بسبب استفحال الخلافات بين القوى السياسية بشكل يصعب حله، حيث ذكر تقرير للسفارة البريطانية في بغداد آنذاك بأنّ الانقلاب العسكري كان حتميًا، وكل ما فعله بكر صدقي انه استبق ثنائي آخر (السعيد – العسكري) واللذين كانا يعدان العدة بدورهما فعلًا للتخلص من وزارة الهاشمي اللذين كانا شريكان فيها بانقلاب أيضًا. 

قبل الدخول في صلب الموضوع وبناءً على دلالات هذه الواقعة التاريخية وما يحصل اليوم في العراق، لا بدّ لنا من التساؤل عن ماهية النظام السياسي الأنسب للواقع العراقي؟ قطعًا لا يمكننا الإجابة دون بيان لما حصل على أرض الواقع عراقيًا، ملكيًا كان أم جمهوريًا، رئاسيًا أو برلمانيًا. 

إن النظام البرلماني يعد نظريًا من أرقى النظم السياسية لقدرته على التكيف والتدقيق والمسائلة، فضلًا عن توزيع مراكز القوى فيه، غير أنّ التطبيق العملي له بنسخته العراقية، جاءت بالتشرذم والانقسامات بسبب طبيعته الجدلية المضاف إليها جدلية الإنسان العراقي الأزلية وتناقضاته الرهيبة، وهو ما فتح الباب لصراعات سياسية لا حصر لها في الطور البرلماني الأول إبان العهد الملكي الذي يعده كثيرون ومن بينهم كاتب السطور الأفضل عراقيًا، قياسًا بما بعده من مآس، حيث شهد في 37 سنة وهي عمره، 58 وزارة! بل أن عام 1941 وحده شهد تشكيل 4 وزارات دفعة واحدة، فيما اكتفى عامي 1929 – 1946 بثلاث وزارات فقط لكل عام. وهي دلالة مباشرة على حالة عدم الاستقرار السياسي الذي كان يشهده العراق الملكي (نموذج مصغر لما حصل بعد العام 2003) والتي كانت سببًا رئيسيًا لثلاث انقلابات عسكرية نجا النظام الملكي من اثنين

منها عامي 1936-1941 لأن هذه الانقلابات استهدفت إسقاط حكومات بعينها لا النظام ككل، فيما أطاح الانقلاب الثالث 1958 بكامل المنظومة الملكية كحل جذري للمشكلة من وجهة نظر تنظيم الضباط الأحرار بالطبع، دون أن يعلموا أنهم أعادوا العراق بفعلتهم هذه، لأحضان الثقافة الشمولية والحكم الاستبدادي الفردي والذي له في هذه البلاد إرث عريق يمتد لقرون خلت. 

إنّ النظام الرئاسي مآلاته العراقية تقليدية وهي الشمولية والاستبداد الفردي بحكم طبيعة الإنسان العراقي الميالة للتسلط والدموية والديكتاتورية، تحديدًا تساعد على تعزيز الانتماءات التقليدية الإثنية والمذهبية بسبب خنقها للحريات السياسية والنقابية، ما ينتج عنه تزايد حدة الريبة في المجتمع، وبالتالي فأنّ الديكتاتورية عكس ما يروج الكثير عنها بجهل بكونها الحل الجذري للانقسامات العرقية والطائفية، فهي بأحسن أحوالها مسكن له مضاعفات خطيرة مستقبلية. لا مضاد حيوي للأزمة لأنها لا تنظر للاستقرار السياسي كما هو بوصفه وليدًا لتدابير سياسية اجتماعية اقتصادية ثقافية متفق عليها بشكل يجعل من كل قوى المجتمع شريكة في القرار والبناء، وبالتالي تكون حاميًا للأمن ورافدًا للاستقرار، بل بوصفه مزيجًا من الاجراءات الاحترازية والاحتياطات الأمنية، ولو أدى ذلك للتضحية بحقوق الناس وحرياتهم! والتجربة اثبتت أنّ الدول التي تنتهج هذا السياق، إنما تغطي بقوتها العسكرية وقبضتها الأمنية هشاشتها السياسية ورخاوتها الاجتماعية، والتي سرعان ما تنكشف وتنهار بمجرد زوال حكم القبضة الحديدية، وهذا هو ما حصل بالضبط في العراق عام 2003 لأن الاستبداد، واقتبس عن الكاتب السعودي محمد محفوظ "يحمل في بنيته وأحشائه كل عوامل الاضطراب وأسباب الفتن وموجبات التفكك السياسي والاجتماعي"، ومع  تعزز هذه الانتماءات التقليدية نتيجة ماذكر أعلاه وطبيعة الإنسان العراقي أيضًا المتناقضة والميالة للجدل لا العمل، يغدو الصراع بينها شرسًا على النفوذ والسلطة (حتى لا تتكرر المآسي السابقة) في ظل النظام البرلماني والكلام هنا تحديدًا عن نسخته العراقية بطورها الثاني الحالي بعد العام 2003، والذي بني على أسس الفساد والأجندات الخارجية والسلاح المنفلت وقبلها المحاصصة العرقية والطائفية (في حل مفترض لمشكلة الحكم في العراق التي طرحها الوزير السابق عبد الكريم الأزري في كتابه الشهير) قد أدخل البلاد هي الأخرى في حالة من عدم الاستقرار السياسي والتردي الاقتصادي والانقسام المجتمعي، وحتى الاضطراب الأمني بسبب تفاعل عوامل الثالوث المشؤو؛ الإرهاب والطائفية والفساد ليكون مصير البلد وأجياله القادمة مجهولًا. 

لعل الأثر الأبرز لانتفاضة تشرين هي شق صف القوى السياسية نتيجة تولد رغبة الاستحواذ الصدرية على كل شيء، بدءًا بركوب موجة التظاهرات الشعبية وانتهاءً باكتساح الانتخابات المبكرة التي أسفرت عنها قبل أن تتحطم الأحلام  الصدرية على صخرة المحاصصة الراسخة، والتي أفرغت الانتخابات من أي مضمون وصادرت أصوات الناخبين، ليبدأ التيار الصدري وفي محاولة منه على ما يبدو لتسليك حالة الانسداد السياسي باقتحام المنطقة الخضراء والاعتصام في البرلمان، ثم محاولة الاستيلاء بالقوة عليها برمتها فجر يوم 30 آب/أغسطس المنصرم، فيما بدا آنذاك أشبه بمحاولة انقلابية متفق عليها، ولكن بالصيغة الميليشياوية "الرسمية بعراق ما بعد العام  2003"! 

ربما تكون ما سمي صدريًا بـ"ثورة عاشوراء" محاكاة غير مقصودة وغير مماثلة تمامًا لانقلاب بكر صدقي قبل 86 عامًا، إلا أن القاسم المشترك بينهما، هو التحرك المسلح الذي يستهدف خصمًا ضمن ذات النظام لا المنظومة ككل، وربما يكون للإطار التنسيقي صولة بهذا الخصوص لو مالت الكفة لصالح الصدريين في يوم ما، وإذا ما افترضنا بأنّ التاريخ لا يعيد نفسه، بل أن البشر هم من يكررون أخطاؤهم، فإنّ استمرار حالة عدم الاستقرار السياسي والأمني ربما يفضي لـ14 تموز طالبانية، تعصف بكامل العملية السياسية كحل أخير للخروج من عنق زجاجة الفوضى وعدم الاستقرار، ليعيد ذات السؤال طرح نفسه ولكن بصيغ مختلفة، مثل إلى متى يبقى العراقيون بين مطرقة الشمولية الرئاسية كالذي شهدناه بين عامي 1958 -2003 وسندان عدم الاستقرار البرلماني بطوره الملكي المبسط أو الآني المشين والمخزي؟! وإلى متى نستمر في الدوران بحلقة مفرغة؟! وهو غير المقبول بحد ذاته لما يتضمنه من فناء لأعمار أجيال من الناس دون جدوى أو حل! فما الحل إذًا؟!

بداية نقول إن ما ستقرأه الآن هو اجتهاد شخصي ومحاولة فردية متواضعة لفك شيفرة المعضلة العراقية المزمنة. إن استلاب السلطة بالقوة (انقلاب عسكري) هو تعقيد للأمور وليس حلًا لها، فانقلاب 1958 فتح للعراق الباب المظلم ليدخل فيه قبل أن يمضي نزولًا في الظلمة عام 1979، وصولًا للسقوط في البالوعة (السبتتنك) عام 2003، حيث أن إيضاح فساد نظام ما، لا ينبغي أن يفضي لخلاصات أكثر فسادًا على حد تعبير أمين معلوف في كتابه (الهويات القاتلة). إننا بحاجة إلى موازنة دقيقة وخاصة، لكن ليس بين الطوائف والمكونات، بل بين ميزات النظم السياسية (المركزية في الرئاسي والتعددية في البرلماني) بين حاجات الاستقرار ومتطلبات الحرية، فهذا التوازن الحرج هو المخرج الوحيد للأزمة السياسية العراقية البنيوية، وذلك لوجود علاقة عميقة تكاملية لا متناقضة كما يشاع بين الاستقرار والحرية، فضمان الثانية يحقق الأولى. إذ لا استقرار بمصادرة الحريات، بل بصيانتها، والخلل الحاصل في العلاقة بينهما، لا ينتج عنه سوى العواقب الوخيمة التي شهدناها في العراق تحديدًا. إن ما نراه بهذا الخصوص هو نظام مختلط رئاسي برلماني تقسم فيه مسؤوليات السلطة التنفيذية بين رئاستي الجمهورية والحكومة على الشاكلة الفرنسية، لحفظ التوازن في السلطة، لتكون الحصيلة رئاسة جمهورية قوية قادرة على لجم جماح الصراعات الحزبية، ورئاسة حكومة فاعلة قادرة على تقييد السطوة الرئاسية في شؤون الحكم، ولنا في انتخابات التجديد النصفي للكونغرس الأمريكي مثال آخر للتوازن المطلوب إحداثه بين الديمقراطيين والجمهوريين عقب كل انتخابات رئاسية بعامين إذا ما أردنا يومًا للعراقيين أن ينعموا بسلام وأمان في وطنهم المفقود.