19-سبتمبر-2020

حولت الظروف السياسية بعض المفاهيم الأخلاقية إلى عار لدى فئات واسعة من الناس (فيسبوك)

"الفُكَـر".. بالكاف غير المعطشة أو المعقودة أو العجمية، كلمة تُستخدم في العراق بعدة معانٍ ومدلولات، ربما هي مشتقة من "فُقر" بتحوير القاف كما تُنطق في بعض المناطق العراقية. لكنها لا تُستخدم لوصف المرء الفقير فحسب كما تعني الكلمة بذاتها.

لم تعد كلمة "احتلال" و"سيادة" و"كرامة" تُغري نسبة غير قليلة من المواطنين في مواقفهم ما إن طُرحت مسألة ما على ساحة النقاش

على سبيل المثال، يُقال عن فترة التسعينيات من القرن الماضي فترة "الفكَـر": "عشنا بفكـَر".  دلالة على سوء الحال المعيشية الناتجة عن العقوبات الأمريكية على البلاد وحالة القحط والجوع التي وصلت إليها نسبة عالية جدًا من المواطنين. كما تُقال عن صاحب الحظ العاثر، وتستخدم ضد أصحاب الخطوة السيئة، كما تُقال عن البخلاء إضافة إلى لفظة "جلف"، وعن المغتنين حديثًا إثر تقلبات الزمان.

اقرأ/ي أيضًا: مدينة الصدر: مدينة البطولة والسعادة!

بإمكان هذه الكلمة، من زاوية فلسفية، أن تكثّف عدة ظواهر في مفهوم واحد يترجم حالات اجتماعية جماعية أو فردية تتعلق بالشأن الاقتصادي والمالي للبشر. ونُحاول استخدامها هنا ـ بالاستناد إلى مدلولاتها الشعبية جزئيًا ـ في وصف من لا يُفكر سوى بالمال بفعل عوامل موضوعية قادته إلى هذه التركيبة الذهنية، حيث يكون الدينار هو أول ما يقفز إلى ذهنه بطريقة لا إرادية في أي موضوع يطرق مسامعه، أو يتجول في عقله.

لا ينطبق مفهوم "الفكَـر" على الفقراء قاطبةً أو ينحصر على وصفهم، وحاشاهم من ذلك، إذ كثيرًا ما تُضرب الأمثال العينية عن مآثر الفقراء في عزة النفس والكرم اتجاه الآخرين، بل على كل فئة أو طبقة من المجتمع تحتل "المادة" تفكيرها. لكن بالتخصيص أكثر؛ قد يتواجد الأمر بزيادة نسبية عند من يعانون الفاقة لفترات طويلة، وحديثي النعمة، حيث يتحكم المال في مصير الفئة الأولى وحياتها ومماتها ويهدد مصيرها، ويقلب حال الفئة الثانية وبالتالي نمط معيشتها وتعامل الآخرين معها ونظرتها هي اتجاه نفسها، ليكون بذلك، عند الفئتين، سيد أفكارهما!

في العراق، تَسبب الحصار كما ذكرنا بإفقار فئات واسعة ربما كانت تُحسب على الطبقة الوسطى بتعريفها التراتبي وليس التأريخي أو الماركسي، كما أنزل عائلات من الغنى إلى الفقر مباشرةً وأنزل فقراءً إلى الفاقة. بالتدريج، تغيرت الكثير من الطبائع الخيّرة للمجتمع وباتت حوادث السرقة تزداد عكسيًا مع قيمة الحاجة المسروقة: أسطوانة غاز، غطاء إطار السيارات، محفظة نقود لأحد المارّة، .. إلخ.

بلا شك، تقود مثل هذه الحالة حين تستمر وتتبدل الأجيال في ظل وجودها إلى تغيّرات في النفس وتبدّل في الطبائع وتغيّر في الآراء تجاه العديد من قيم وأخلاقيات ومفاهيم الحياة. ستكتسي عزّة النفس، على سبيل المثال، معايير جديدة، ولن تكون كما عُهدت، بمقاومة شهوات الأنا، أو الخضوع للآخر، عبر أعمال تُصنف بخانة "غير الشريفة" أو "غير المحترمة"، ولنا في ذلك حديث لاحق ذي صلة بمسألة المقاومة والأنظمة التي تدعي الدفاع عن السيادة، كذلك في ارتباط ما نؤشر عليه بمسألة الفساد من جانبها الأسفل، المجتمعي.

انسحب ذلك على الآراء السياسية لبعض الناس. لم تعد كلمة "احتلال" و"سيادة" و"كرامة" تُغري نسبة غير قليلة من المواطنين في مواقفهم ما إن طُرحت مسألة ما على ساحة النقاش. باتت الآراء السياسية لدى هؤلاء مشابهة لنقاش بين اثنين، يشير الأول إلى أحد المجرمين الذي اغتصب فتاةً وقتلها فيرد الآخر: انظر إلى سيارته السوداء الفارهة!

هكذا يفعل "الفُكَـر" حين يتأصل في مجتمعات تعبت من الحروب والفساد حيث يوازي الخرابَ الناتج عنهما خطابٌ وطني/قومي ملتزم بثوابت مبدئية وقيمية. يجري ذلك بنسبة كبيرة في حالة جزء من المجتمع العراقي اتجاه القضية الفلسطينية، وبرزت مؤخرًا مع إعلان الإمارات والبحرين التطبيع مع كيان الاحتلال، رغم أن الدولتين لم يخوضا أي حربٍ مع الصهاينة أو اضطراب ناتج عن حالة عداء، كأن يكون اقتصاديًا وما شابه، لكن المُلاحظ من آراء نسبة لا يُستهان بها في الشارع ومواقع التواصل الاجتماعي أن فكرة الغنى والرفاهية التي يعيشها الإماراتيون والبحارنة تسلب من عقل العراقي التفكير بالحدث بشكل طبيعي.

يتبادر إلى ذهن هؤلاء حالة الرفاهية التي تعيشها شعوب الدول المطبّعة، إلى درجة يصعب النقاش مع أفرادها بشكل موضوعي. لا ينفع ذكر الدول التي طبّعت في السابق ولم تتقدم اقتصاديًا، واستعراض مظلمة الفلسطينيين وعبثية التطبيع من هاتين الدولتين، والأراضي التي احتلتها إسرائيل عنوةً بل والمقدسات التي من المفترض أن تهم كل مسلم على وجه الأرض.

وجّه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب حزمةً من الإهانات اتجاه حكومات دول خليجية وغير خليجية بل وزاد في إهاناته كلما خضعت تلك الحكومات للابتزاز الأمريكي وتغاضت عن التعسف الإسرائيلي. كما أن حكومة الكيان لم تُخفِ نظرتها للعرب حين رفضت تسليح الإمارات بطائرات عسكرية بعد ساعات من إعلان التطبيع. كل ذلك وغيره، لا يندرج تحت مسمى "الذلة" و"الإهانة" لدى بعض الناس ـ رغم أنه صار مضربًا للأمثال المضحكة عند قسم آخر ـ  ما دامت هناك عمارات شاهقة ومكيفات هواء لا تنطفئ.

فكرة الغنى والرفاهية التي يعيشها الإماراتيون والبحارنة تسلب من عقل العراقي التفكير بحدث التطبيع بشكل طبيعي

لعل تكرار ذكر الإهانات التي يتعرض لها المطبعون مفيد؛ لكن ذلك لا ينفي الصعوبة على الحالة الذهنية التي نَصف أن تهضم أي حديث عن الديمقراطية مثلًا، أو حكم العائلات وتسلطهم، واعتقال المواطنين بناءً على رأيهم، أو المجازر التي يرتكبها المطبعون السلميون في اليمن. لا يهم ذلك طالما لدى المواطنين هناك سيارات تويتا ذات الدفع الرباعي!

مرة أخرى، لا يُدرج الفقراء بوصفهم فقراءً في هذا "المفهوم" أو المصطلح الشعبي العراقي، بل بعض ممن ذاق الأمرّين من سوء الحال، وحديثو نعمة، وأغنياء لا يشغل ذهنهم سوى المال، حتى أمست القيم غير المُختلف عليها منذ فجر الحضارات محط اختلاف وجدل.. وليس أوضح من ذلك وصفًا لعصور الانحطاط التي تمر بها الأمم.

 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

في التضامن السياسي

عن الذات المحاربة