30-يونيو-2022
المعرفة البشرية

المعرفة في سياقها الطبيعي (فيسبوك)

كان آخر ما تمَّت مناقشته في المقالات الثلاث السابقة هو ضرورة وضع معرفتنا في سياقها وقالبها الطبيعي. والكف عن وضع الطبيعة في سياقنا وقالبنا المعرفي. والمقصود هو أننا كائنات مخلوقة داخل الظروف الطبيعيَّة لكوكب الأرض وأجسادنا وما فيها من أجهزة مختلفة مخلوقة لتكون مناسبة لهذه الظروف. فلو كنّا، مثلًا، مخلوقين على القمر، حيث لا وجود للهواء، لما استطعنا أن نَسْمَع الأصوات لانعدام وجود الهواء الناقل لموجاتها، ولن يكون من المناسب عندها أن نمتلك حاسّة السمع، ولن يكون من المُمكن أن نتكلّم ونستعمل اللّغة.

أغلب ما جاء في المعرفة البشرية كان غير موضوعي

إذًا، آلياتنا في الحصول على المعلومة، كما آلياتنا في الحصول على الطاقة، هي بالمحصلَّة آليات واقعة في سياق الطبيعة التي نحيا فيها، ولو انتقلنا للعيش على المريخ فلن ينفعنا جهازنا الهضمي في الحصول على الطعام، إذًا لا نباتات هناك ولا حيوانات.

من جهة أهم، فإن المعرفة البشرية، أغلبها على الأقل، ليست موضوعيّة، بل ذاتيّة، وهي تُحقق غايات اجتماعيَّة تَكَيُّفيّة. فنحن، مثلاً، نتبّنى المعلومة الشائعة بين أفراد الجماعة التي ننتمي إليها، ولا نتكلَّف عناء التحقّق من صدقها. وسبب هذا السلوك هو المحافظة على تماسك بناء الجماعة. لأن اختلاف الآراء بشأن القضايا الكبرى يخلق جماعات فرعية كثيرة، فينهار بناء الجماعة وتنهار قدرتها على توفير الحماية لأفرادها. ما يعني أن تعدد آراء الأفراد مُضرّ بمصالحهم. وهذه قضية يصعُب الاعتراف بها لأنها مؤلمة. على كل حال نحن نَلْبَس ما تَلْبَسه الجماعة، ونتصرف التصرفات المألوفة لدى أفرادها ونُصدِّق ما تُصدِّق وتقتنع به من معلومات. كل ذلك يأتي في سياق تبادل منفعة، فنحن نعطي الجماعة الخضوع والولاء، لتتماسك وتكون قوية بما يكفي لتكون قادرة، بالمقابل، على إعطائنا الدعم والإسناد والحماية. وكلّما زاد تشابه افراد الجماعة زاد تماسكها والعكس صحيح. ومحصّلة هذه القضيّة أن الوعي يمارس هنا فعلا "اجتماعيًا" تضليليًّا، حيث يدفع أفراد الجماعة إلى تبني ما تتبنّاه من أفكار، بغض النظر عن صحَّة هذه الأفكار أو خطأها. ولذلك ينشأ الناس على أديان وعقائد الجماعات التي ينتمون إليها، بل الأمر لا يقتصر على لأديان، ويمتد حتى للمعلومات التي توصف بأنها علميّة.

اسأل أي مجموعة من الأشخاص في الشارع، هل الأرض كروية أم مسطَّحة؟ سيقولون لك هي كروية، فاسألهم عن الدليل، ستجد بأن أغلبهم لا يعرف الدليل، لأنهم لا يعتنون بمدى صدق المعلومة ما دامت شائعة.

كانت قضية كروية الأرض، أول ما ظهرت، مبعث على السخرية والنبذ، لذلك رفضها الناس دون تفكّر، ثم لمّا تحول إنكارها، بعد أن شاعت، إلى مبعث على السخرية والنبذ، تبناها الناس وصدّقوها أيضًا دون تفكّر. الناس يشاهدون بأعينهم أن الشمس هي التي تدور حول الأرض، لكنهم يعتقدون أن الأرض هي التي تدور حول الشمس، مع أنهم لا يعرفون الدليل الذي يرفع التعارض بين المشاهدة العينيّة وبين المعلومة المعاكسة لها، هم يفعلون ذلك لأن التحقق من المعلومة ليس هدفًا أساسيًا بالنسبة لمنظومة الوعي البشري بل هو هدف هامشي جدًا. 

رغم ذلك فمن المهم الالتفات إلى أن رفض الاختلاف والمختلفين لا يقع في صالح الجماعات بشكل دائم، لأنها بحاجة إلى الاستمرار بمواجهة تحدّيات الطبيعة. وهذه المواجهة تحتاج إلى الابتكار، والابتكار يتأسَّس على الاختلاف، ومن هنا تضع الجماعات البشرية آليات في قمع المختلف وتتركه يصارعها، فإذا كان اختلافه مناسبًا للحاجات التكيّفيّة، استطاع عبور القمع، وإلا فشل وعاد إلى الانسجام مع الانساق الشائعة.

من جهة أخرى كنّا قد أكدنا في المقالات السابقة بأن الإدراك، في كثير من مخرجاته، عبارة عن إحساس مصطنع داخل الوعي، يحاول محاكاة المحيط الخارجي، فالروائح عبارة عن أحاسيس غير موجودة خارجيًا، وكذلك الأصوات والأضواء وحتى الحرارة، فالحرارة إحساس نصنعه لمحاكاة تغيرات فيزيائية مضرَّة بأجسامنا لأنها تعرّضها للحرق، ومن ثمّ يأتي الإحساس بالحراة ليضطرّنا إلى الابتعاد عن خطر النار لكنه لا يفسر النار. والبشر وطوال مئات الآلاف من السنين لم يعرفوا ماهيَّة النار، ولماذا يؤدي الاقتراب منها إلى الشعور بالألم. وهذا يعني أنّ الحرارة كمدْرَك لم يُنتج معرفة بالنار بل أنتج سلوكًا وقائيًا لدرء خطرها فقط.

وفضلاً عمّا تقدَّم ولمزيد من الإيضاح فيما يتعلق بكون الطبيعة لا تقع في سياقنا الإدراكي/ المعرفي، أننا نحوّل الإحساس بالطبيعة إلى حكم بحقها، ثمَّ نتعامل مع هذا الحكم باعتباره لازمًا من لوازم الطبيعة. نحن نحكم بأن لون الثلج أبيض، ورائحة الجثث كريهة، وصوت هدير الأمواج جميل. لكن خارجيًا، لا وجود لا للألوان ولا للروائح ولا للأصوات. إذًا، الطبيعة خارج السياق الإدراكي الخاص بنا وهي غير معنيَّة بأحكامنا. لا بل العكس هو الصحيح، أي أن معرفتنا، شأنها شأن طعامنا ولباسنا وثقافتنا، هي سياق من سياقات الطبيعة، ومثلما أننا نضطر إلى أن نأكل ما تجود به الطبيعة، فنحن نعرف ما تُمكننا الطبيعة من معرفته. فقد وفّرت لنا الموجات الكهرومغناطيسيّة التي استعملنا طيفًا محدّدًا منها للرؤية، ووفرت لنا الموجات الصوتية، التي استعملناها للسمع، ووفرت لنا جزيئات كيميائية استعملنا بعضها للشم وبعضها للتذوق، ولو اختفت كل هذه الأشياء لتعطلت عملية الإدراك عندنا بشكل تام.

دلالات: