في العاشر من آب/أغسطس ولدت على أرض العراق. هذه الأرض التي ما انفكت عنها الحروب، ولا تهاونت معها الويلات، ولا ابتعدت عنها المآسي. لا أحبذ الاحتفال بهذا اليوم، لأني لم أشعر لا بطفولة ولا بشباب، وأخشى أن ينقضي العمر في متاهات، مثلما بدأ.
الأسى الذي يلحق بك كونك مواطنًا عراقيًا ولدت وعشت في هذه الأرض، كان يمكن أن لا يكون إلا سعادات وأفراح. هذه مجرد تمنيات وفرضيات لا وجود لها في حياتنا، فالعمر الذي تبدؤه وأمامك صورة "القائد المفدى" صدام حسين، ثم تحل مكانه صور العمامة ورجالاتها الذين لا يعدون ولا يحصون، فهذا ما لا يمكن أن يتمناه أي كائن بشري يريد للإنسان أن يكون أولاً.
كنت أذهب إلى الروضة وأنا في السنوات الأربع الأولى من عمري، كانت في واجهتها صورة كبيرة لصدام حسين. عندما تدخل للممر الذي يأخذك للصفوف، تجد صورة أخرى. في الصف ذاته تُعلق على الأقل صورة واحدة.
اقرأ/ي أيضًا: إشكالية إعادة السنة إلى منظومة الحكم عراقيًا
لصدام كانت هناك آلاف اللوحات والصور والتماثيل في العراق. لا يمكن لك أن تمر بمدينة دون أن ترى وجهه المافيوي
كان أول شعار نبدأ به الصباح إذا ما قالت المعلمة صباح الخير، فنقول: "صباح النور والسرور على قائدنا المنصور". لا أعرف على من كان ينتصر القائد حينها، على الأطفال، على الأيتام، على الأرامل. كانت صور وأناشيد القائد المنتصر في كل مكان.
لصدام كانت هناك آلاف اللوحات والصور والتماثيل في العراق. لا يمكن لك أن تمر بمدينة دون أن ترى وجهه المافيوي. أما اليوم فالحال لا يختلف. القائد الذي كنا نمني النفس بأن يسترخي قليلاً من حب الذات المفرط، أنتج لنا المئات مثله.
اليوم في بغداد والمحافظات، خاصة الجنوبية منها، تجد صور كبيرة وكثيرة، لكنها ليست لشخص واحد، بل لشخوص عدة، صور هؤلاء كانت المشهد الأول أمام أعين أطفالنا. لا مشكلة أن ينشر أي رئيس صوره في بلاده، شرط أن يوفر لهم متطلبات العيش الكريم.
حتى مؤسسات الدولة العراقية، التي يفترض أن تكون مؤسسات دولة، لا تخلو من صور رجال الدين وزعامات الأحزاب السياسية. دائمًا ما تتبدل الصور فيها مع تبدل الوزير، لكن إذا ما بقي الوزير ذاته أو عُين شخص من ذات الكتلة، بكل تأكيد ستبقى الصور وستزداد.
تُشكل الصورة بالنسبة للعراقيين، جزءًا من حالة الاشمئزاز التي تكونت لديهم. أصبحوا يلعنون أي شخص صورته كبيرة، حتى وإن لم يكونوا يعرفونه. أتذكر مرة وفي شوارع بغداد، شتم رجل كبير الفنان كاظم الساهر عندما كانت صورته الإعلانية معلقة. لم يكن يعرف كاظم، لكنه شاهد صورة كبير فتوقعه سياسيًا عراقيًا.
تشوهت ذائقتنا البصرية بفعل هذا الكم من الصور، حتى تلاشى لدينا حب استطلاع المناطق التي نمر بها. الصور ذاتها تُستنسخ وتُعلق في كل مكان، والرجال هم الرجال ذاتهم، ونحن ذاتنا الذين نصطدم كل يوم بصورة قبيحة.
اقرأ/ي أيضًا:
عندما يكون الصمت "شريكًا"