كثيرًا ما نسمع ونشاهد قوى سياسية ومدنية وإعلامية وشخصيات متعدّدة تطالب وتنادي بتغيير واقع العراق والواقع السياسي على وجه الخصوص وفي مختلف المناسبات حتى باتت تلك المطالبات والأمنيات أشبه بالروتين المعتاد دون أن تتحول إلى واقع حقيقي يترجم تلك المطالبات إلى حقائق على الأرض، فصارت تلك الأصوات والمطالبات أمرًا مستهلكًا ومملًا على الرغم من توافر الفرص التي لو تمّ استغلالها بصورة جيدة لكان الوضع قد تغيّر بشكل ملحوظ ، إلّا أنّها - ويا للأسف - مرّت مرور الكرام وخاصة إذا ما أدركنا أنّ بلدًا مثل العراق محكوم بتوازنات محلية وإقليمية ودولية، إذن فإنّ أي تغيير من الصعب أن يحدث فيه ما لم تتوافر ظروف تسمح بالتغيير، وهنا المقصود الأولى بالتغيير هو التغيير السياسي، أمّا بقية المجالات فما هي إلا انعكاس للنظام السياسي الحاكم.
تبى الطرق السلمية هي المعول عليها لتغيير جوهري في النظام الميت
النظام السياسي اليوم معقد، ومتشابك، وطريقة تغييره أو إمكانية التأثير فيه محدودة، وهي إمّا طرق سلمية متمثلة بالانتخابات، أو طرق غير سلمية متمثلة بالثورات والانقلابات العسكرية، أو التغيير عن طريق قوة خارجية. والطرق الثانية مستبعدة في ظل الظروف التي يعيشها العراق، فتبقى الطريقة الأولى هي المعوّل عليها في إحداث تغيير جوهري في جسم هذا النظام الميت، وإعادة بث الروح فيه، وجعله نظامًا حيًّا يلبّي حاجات الناس، ويحقق أمنياتهم في العيش الكريم.
وطوال المدّة الماضية نجد أن فرصة التغير عِبرَ الطريق الأول - الانتخابات - قد تحقّقت مرتين بشكل ممتاز، ولو واستغلت لكان الأمر اليوم فيه شيء مختلف عن ذي قبل.
الفرصة الأولى كانت هي انتخابات عام 2021م وهي الانتخابات التي أعقبت ثورة تشرين وسمّيت في وقتها بالمبكرة؛ لأنها جاءت قبل موعدها المحدد دستوريًّا وتنفيذًا لمطالب ثورة تشرين بإجراء انتخابات مبكرة. تلك الانتخابات جاءت عقب قوى رفض من الشعب للنظام القائم وأحزاب السلطة، إذ انحسرت قوى وشخصيات ذلك النظام في أضيق زاوية وأوشكت على الموت سياسيًا.
لكن ماذا حدث؟ بدلًا من استثمار ذلك الزخم الثوري والمدّ الوطني وتحويله إلى عمل سياسي منظم ومؤثر ومتصاعد، حدثت النكسة فما أن أعلنت حكومة مصطفى الكاظمي موعد إجراء الانتخابات والتزامها بذلك، حتى أعلنت معظم قوى تشرين وكل من تعاطف وتفاعل معها بمقاطعة الانتخابات! هو أمر غريب في أن تدعو وتثور وتعطي مئات الشهداء وآلاف الجرحى من أجل تحقيق مطلب مهم، ثمّ تتخلّى عنه فيلتقط عدوك أنفاسه ويعود منتصرًا ماسكًا ومنفردًا بمقاليد السلطة، وتذهب فرصة التغيير أدراج الرياح.
تخلت قوى تشرين عن الانتخابات وسمحت لعدوها بالتقاط أنفاسه
وأمّا الفرصة الثانية أيضًا كانت الانتخابات والمقصود بها انتخابات مجالس المحافظات والتي جرت نهاية العام المنصرم، وهنا أيضًا توافرت فرصة التغيير من داخل النظام، وبات أفق الفوز أكبر ونطاق المنافسة أضيق، فبعد انسحاب التيار الصدري من العملية السياسية ومقاطعته كل الفعاليات السياسية، أصبحت فرصة الفوز أسهل والمنافسة صارت محصورة بين قطب تقليدي واحد و القوى المطالبة بالتغيير، فأصبحت تلك القوى أمام منافس واحد فقط، فكانت فرصة كبرى لكي تنزل تلك القوى والشخصيات الطامحة للتغيير بكل ثقلها وحملها إلى الساحة الانتخابية، إلّا أن الخطأ نفسه تكرّر وبشكل أكبر من الفرصة السابقة، فانتهت آمال التغيير وحكّم الإطار قبضته على السلطة، فأكثر من 23 مليون مواطن لهم حق الانتخاب، يصوت منهم 6 ملايين فقط! إنّه حقًّا أمر غريب، أن تستقتل من أجل مطلب ما وحين تأتي ساعة الحسم تتخلى عن كلّ شيء.
وقد يردد الكثير من تلك القوى أن انتخابات مجالس المحافظات ليست فرصة للتغيير وإنما هي حلقة زائدة ونافذة من نوافذ الفساد وتوزيع المنافع والمناصب بين قوى وأحزاب السلطة وهو رأي سديد من الناحية النظرية، ولكن الواقع يجعل منه رأيًا غير صائب، وغير ممكن التطبيق عمليًا على المدى القريب والمتوسط؛ لسبب واحد: هو وجود نصّ دستوري يخصّ مجالس المحافظات. إذ نصّ الدستور على تكوين مجالس محافظات تتولى إدارة الشؤون المحلية لكلّ محافظة وانتخاب المحافظ، ثمّ صدر قانون المحافظات غير المنتظمة بإقليم ذي رقم 21 لسنة 2008 المعدل والذي نظّم عمل مجالس المحافظات بشكل تفصيلي ، وإزاء هذا التنظيم القانوني لعمل مجالس المحافظات فإنّ خيار مقاطعة الانتخابات المجالس ضار أكثر مما هو نافع، لذا فإن إزالة تلك الحلقة الزائدة كما يسميها الكثير أمر صعب إن لم يكن أشبه بالمعجزة حاليًا، إذ يتطلب ذلك تعديلًا في الدستور وإلغاء قانون المحافظات غير المنتظمة بإقليم، وتعديل الدستور أمر في غاية الصعوبة فهو يحتاج أولاً اجتماع القوى السياسية وتوافقها على التعديل فيما بينها، وهذا الأمر شاق في ظل التنافر والصراع والطائفية السياسية التي يعيشها النظام السياسي القائم، ثمّ طرح التعديل ومناقشته والتصويت عليه في مجلس النواب على وفق النصاب المطلوب، بعد ذلك طرح التعديل على الشعب من طريق الاستفتاء الشعبي، وهذا الوضع يحتاج إلى توافق سياسي وشعبي، إضافة إلى الجانب الأمني والمالي وكل هذه الأمور غير متوافرة حاليًا، ولا يمكن أن تتوافر في المدى القريب أو المتوسط.
هذه العوامل مجتمعةً تجعل انتخابات مجالس المحافظات من حلقة زائدة إلى فرصة ممتازة في اختراق النظام، ومن ثمّ التأثير فيه من الداخل وصولًا إلى تغييره، إذا ما علمنا أن تلك المجالس لم تؤدِ دورها المطلوب منها في المدّة السابقة، لذا فاستغلال تلك الفرصة وإيصال العناصر الجيدة وجعلها تمارس دورها بشكل صحيح، أفضل من تسليمها إلى أحزاب السلطة لكي تواصل الفشل المستمر الذي رافقها منذ إنشائها.
عوامل كثيرة تجعل انتخابات مجالس المحافظات فرصة لاختراق النظام
هذا الوضع المعقّد يحتاج إلى عقلية سياسية ذات آفاق بعيدة، ورؤية دقيقة تحسن استغلال الفرص بالشكل الأمثل بعيدًا عن العواطف الشعبية والأهواء، فالجماهير تحتاج إلى قيادة توضّح لهم الخيارات المتاحة التي تحقق أمنياتهم بالتغيير المنشود، إذ أنّ ضياع الفرص بشكل متكرّر ومن دون أسباب مقنعة يجعلنا نتساءل: ما الجدوى من كل هذا التذمّر والرفض؟ لماذا الثورة ضدّ النظام القائم، وإعطاء الشهداء والجرحى، إذا كنّا نرفض تغييره حين تكون الفرصة مؤاتية؟.