03-يناير-2016

جنود أمريكيون في العراق (Getty)

هذا النصّ ترجمة لجزءٍ من الفصل الأوّل من كتاب "الإمبريالية بين الماضي والحاضر" لمؤلفَيه إيمانويل ساكَريلي ولاثا فارادارجان والصادر عن مطبعة جامعة أكسفورد عام 2015.


في مشهد إعلاميّ يعجّ بأخبار وتقارير مثيرة للقلق والرعب ظهر في العام 2010 تقرير آخر يكشف عن تورّط جنود أمريكيين شكّلوا فيما بينهم فريقًا أسمَوه "فرقة القتل" في عمليّات قتل عشوائيّة للمدنيين في جنوب أفغانستان. وقد كان هؤلاء الجنود يكافئون أنفسهم بعد هذه العمليات بالاحتفاظ بأعضاء من جثث القتلى: أصابع وعظام وجماجم. وقد تسرّبت إلى وسائل الإعلام بعض الصور للجنود وهم إلى جانب الجثث، كما تبيّن أنّ الجنديّ الذي ابتدع هذه الفرقة قد كان يحصي أعداد المقتولين بوشم جمجمة صغيرة على ساقه عن كل ضحيّة.

استخدمت كلمة ""إمبريالية" في البداية لوصف سياسات نابليون الثالث في القرن التاسع عشر، ثم ارتبطت تدريجيًا بالمدّ الكولونيالي للدول الأوروبية

هذه التقارير التي أضحت سمة بارزة في حياتنا المعاصرة تتبع مسارًا يمكن تعقّبه ويمكن القول بدايةً إنّ الارتياع لسماع مثل هذه الأخبار سيخبت أمام حالة اللامبالاة الرسميّة وما يكرّره المسؤولون من خطابات التطمين والتهدئة كما أنّها ستُنسى بعد حين وتغطّي عليها أخبارٌ عن حوادث أخرى قد لا تقلّ سوءًا وفظاعة. ولو كان للنّاس عند النظر إلى هذه الحوادث أن يخرجوا بخلاصة واحدة فلربّما ستكون أنّ قلب الإنسان قد تلطّخ بالشرّ حتّى تلبّسه وأعماه.

وحتى لو ألقينا نظرة خاطفة على الحقائق المتوفرة لدينا فسنرى أنّ هذه الجرائم قد ارتكبت في حالة من فراغ سياسي. لقد كان كالفن غيبز الذي أنشأ "فرقة القتل" في أفغانستان يتبجّح بأنّه قد فعل الأمر ذاته أثناء احتلال العراق، كما كان جمع أعضاء من جثث القتلى ممارسة شائعة بين الجنود الأمريكيين أثناء الحرب في فيتنام، وحين أشار غيبز إلى ضحايا أفعاله المشينة بأنّهم "همجٌ قذرون" فإنّه قد كان، عن وعي ربّما أو عن غير وعي، يتكئ على تاريخ من القهر والاحتلال مستحكم في الذاكرة.

يلزمنا من أجل التعامل بشكل مسؤول مع فظائع الحاضر أن نأخذ بالحسبان تلك الجرائم التي اقترفت في الماضي. ولكن إن لم يكن ثمة مفرّ من ذلك الشعور بالاستمرارية التاريخية في التعامل مع المشكلات المعاصرة، فلن يفيدنا كذلك التعامل مع هذه الاستمرارية بأسلوب من التعميم والإطلاق. صحيح أنّ الحروب مستمرة لم تنقطع منذ القدم، ولكن المتغيّرات التي تنتجها وتعيد إنتاجها اليوم تعدّ جزءًا من حقبة تاريخية لا مفرّ من الإقرار بأنّ الحاضر يشكّل جزءًا منها، ألا وهي الإمبريالية. لقد آب مصطلح الإمبريالية بعد فترة ظُنّ أنّه صار فيها موضوعًا لا يصلح سوى للجدال الأكاديميّ، فنرى البعض الآن يستخدمونه في معرض النقد والإدانة بينما نجد آخرين يستحضرونه ويعدّونه من الفضائل.

ليس غريبًا أن يثير تداول الكلمة بهذا الشكل الكثير من الجدل حول ما تعنيه، ولعل جانبًا من هذه الصعوبة يكمن في أنّ "الإمبريالية" كثيرًا ما تستخدم للدلالة على ظواهر عديدة في الاقتصاد والسياسة والثقافة واللغة بتعدّد القرون والثقافات. فنراها أحيانًا تستخدم للإشارة إلى الإمبراطورية الفارسيّة القديمة، وها هي الآن ترتبط بالوجود العسكري الأمريكيّ في الشرق الأوسط وبتغلغل الصين تجاريًا في أفريقيا، كما التصقت الكلمة من قبل بالهيمنة السوفيتية في أوروبا الشرقية، وهكذا نجد أنّ كل هرميّة أو امتياز كان يُنعت بالإمبريالية. ولكنّ هذا النطاق الواسع من الاستخدام للمصطلح قد نزع منه دلالته التحليلية، ولذا يحسن بنا أن ننظر سريعًا إلى تاريخ هذا المصطلح وتطوّره.

صحيح أنّ لكلمة "إمبراطورية" جذورًا تاريخية عميقة، إلا أنّ كلمة "إمبريالية" حديثة نوعًا ما، إذ لم تعرف على الساحة الدّولية إلا بعد منتصف القرن التاسع عشر. لقد استخدمت الكلمة في البداية لوصف سياسات نابليون الثالث في ستينيات القرن التاسع عشر، ثم ارتبطت تدريجيًا بالمدّ الكولونيالي للدول الأوروبية. وفي تسعينيات القرن نفسه صار أنصار التوسع الاستعماريّ ومناهضوه يستخدمون كلمة "إمبريالية" في الجدالات التي دارت بينهم فيما يتعلق بمستقبل مجتمعاتهم ووجهة العالم الحديث، وكان المصطلح حينها يشير إلى ذلك الصراع المحموم الذي اندلع للسيطرة واستعمار ما تبقى من مناطق هامّة واستراتيجية.

وقد يصرّ بعض المراقبين على أنّه وبالرغم من أوجه الشبه الظاهرية فإنّ الإمبراطوريات المعاصرة تختلف تمامًا عن الإمبراطوريات بصورتها الفجّة التي سادت في الماضي، وخاصّة بالمعنى الاقتصادي للكلمة. فقد كان هنالك رجال من أمثال سيسيل رودز يتّخذون الإمبرياليّة شعارًا لهم ومثالًا، وليس ذلك بفضل ما حققته هذه السياسة من ثروة هائلة وحسب ولكن لأنها قد قدّمت أفضل الحلول للحفاظ على الاستقرار المجتمعي داخليًا. لقد رأى رودز أنّ الطريقة المثلى للتعامل مع زيادة حجم الطبقة العاملة في إنجلترا تتمثل في ضمان معدلات عالية من الأرباح التي ستنعكس في نهاية المطاف عليهم بالإضافة إلى السيطرة على أراض جديدة وإتاحة المجال لهم للهجرة إليها. وبالإضافة إلى النفع الذي تحققه الإمبريالية على "العامّة الرّعاع" فإنّ من شأنها أيضًا أن تنقل الحضارة إلى أبعد الأركان وأكثرها "تخلفًا" في العالم.

لقد أصرّ لينين على أنّ الإمبرياليّة ليست مجرّد مجموعة من السياسات الخاطئة التي أدّت إلى نتائج مؤسفة على الصعيد الإنساني ولكنّها في رأيه نظام اقتصادي وسياسيّ عالميّ ولا بدّ من مواجهته على هذا النطاق أيضًا. لم تكن تلك الصورة التي رسمت للإمبريالية لتقنع الجميع. لقد كان صعود الحركة الاشتراكية العالميّة على وجه الخصوص عاملًا أساسيًا في تغيير التصورات حول الإمبريالية وشكل استخدامها في السياق السياسي العام. وحين اندفعت القوى العظمى في تلك الفترة نحو الحرب العالمية الأولى كتب القائد البلشفي فلاديمير لينين بيانًا شرح فيه أصول الإمبريالية ونشأتها وتطوّرها وطبيعتها الاستغلالية والمتعارضة مع الديمقراطية. وقد اتخذ لينين موقفًا حازمًا، معتمدًا على كتابات الليبرالي الإنجليزي جون هوبسن والماركسي النمساوي رودلف هلفردنغ على رأيه الذي أشرنا إليه آنفًا حول الإمبريالية وكونها نظامًا عالميًا تجدر مواجهته على هذا الأساس وأنّها ليست مجرّد مجموعة من السياسات الخاطئة التي كانت لها عواقب كارثية.

تكمن وجاهة رأي لينين في أنّ الإمبريالية على رغم ما تدّعيه من أنّها جلبت الحضارة للشعوب المستعمرة وحققت مصلحة مشتركة معهم قد تركت هؤلاء الناس في حالة من العوز والبؤس وكان هذا سببًا كافيًا لإدانة الإمبريالية وممارساتها. كما أنّ تلك الادّعاءات التي ظهرت في خطاب القوى الإمبريالية عن حفظ حق الشعوب في "تقرير المصير" لم تكن سوى عبارات مفرغة من معناها، وذلك لأنّ أولئك المنتصرين "الذين أرادوا إنهاء كل الحروب" قد أخذوا يتقاسمون تركة الإمبراطورية العثمانية فيما بينهم ثم لم يتوانوا عن إعطاء أنفسهم الحق في استعمارها وذلك عبر نظام الانتداب الذي خرجت به عصبة الأمم، أيّ أنّ الإمبريالية القديمة قد استمرّت بأشكال ومسمّيات مختلفة، مما أبقى العالم عرضةً لحروب ونزاعات جديدة.

وفي هذا السياق نجد أنّ البلشفيين قد رفضوا ما قامت به روسيا القيصرية من سيطرة على أراض ليست لها كما أعلنوا انسحابهم من المعاهدات السريّة التي كان القيصر قد أبرمها مع القوى الاستعمارية الأخرى، وقد زاد هذا من مصداقية البلاشفة في عدائهم المعلن للإمبريالية. وقد حاولت الحكومة السوفيتية الجديدة، حتى في رمقها الأخير للحفاظ على وجودها، دعم الأطراف المناهضة للإمبريالية في الدول الاستعمارية والمستعمرة. وفي عام 1920 قامت الحكومة السوفيتية بعقد مؤتمر شعوب الشرق في باكو، وقد ربط هذا المؤتمر الذي حضره أكثر من 1800 شخصية من آسيا وأوروبا مصير الاتحاد السوفيتي بهزيمة الإمبريالية. وبالرغم من التغيرات السياسية الكبيرة التي طرأت في الاتحاد السوفيتي إلا أنّ العديد من القادة السياسيين في آسيا وأفريقيا قد طلبوا وتلقّوا دعمًا من تنظيم الشيوعية الأممية لإنشاء عصبة مناهضة الإمبريالية عام 1927.

 أصر لينين على أن الإمبريالية ليست مجرد مجموعة من السياسات الخاطئة، ولكنها نظام اقتصادي وسياسي عالمي ولا بد من مواجهته على هذا النطاق

ظهرت بعض المصطلحات الأخرى بموازاة "الإمبريالية" وذلك مثل "الاستشراق" الذي يمثّل محاولة للنظر في اللقاء التاريخي بين الغرب وبقية العالم ولكن عبر الدراسات الثقافية وليس السياسة والاقتصاد. وخلال عقدين آخرين ومع بروز الحركات القومية حول العالم واقتراب القوى العظمى من نزاع عالمي كارثيّ آخر صار من المستحيل الحديث بشيء من الجدّية عن المنافع التي جلبتها الإمبريالية للشعوب المستعمرة. وفي مآل متوقّع بدأت الدول بإنهاء استعمارها في دول العالم الثالث بعد الحرب العالمية الثانية، إلا أنّ هذه العمليات التي شهدت انتقالًا سلسًا للسلطة بين الحكومات قد أثارت علامات استفهام جديدة. لقد بدا لوهلة أنّ إنهاء التوسع الإمبريالي ومنح الاستقلال السياسي للدول المستعمرة تطوّر مهمّ وإنجازٌ كبير، ولكنّ الحال بقيت مشوبةً بالاستغلال والسيطرة والاحتقار كما بدا أنّ النزاعات والحروب على الساحة الدولية ما زالت مرشّحة للاستمرار.

برزت جهود على الصعيد الثقافي والفكريّ تنتقد تلك الأشكال التي لم تنقطع من الاستغلال وعدم المساواة، ثم صارت ترتبط بشكل متزايد بالفكر السياسيّ الماركسيّ وبالاتحاد السوفيتي، خاصّة في الأكاديميا الغربية. وخلال السبعينيات، وبالرغم من أنّ الرأسمالية كانت لا تزال هدفًا أساسيًا للنقد بين الأكاديميين والمثقفين اليساريين، إلا أنّهم توقفوا عن الاعتقاد بتلك الفكرة الحالمة عن مجتمع من طبيعة جديدة في طور التشكّل وراء ذلك الستار الحديدي مع معسكر الغرب. وتحوّل الحديث إلى ضرورة أن يستخدم مصطلح "الإمبريالية" في توصيف الحالة القائمة في الاتحاد السوفيتي، وقد عملت هذه التغيرات الفكرية والسياسيّة على التأثير في مفهوم "الإمبريالية" وطريقة استخدام المصطلح في فهم العالم.

ثم تراجع رواج كلمة "الإمبريالية" بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، وكانت نهاية الحرب الباردة وإعلان "النظام العالمي الجديد" تحمل في طيّها تصورات عن احتمال أو فرصة حقيقيّة للانتقال إلى مرحلة من التاريخ لا يحكمها التنافس والتدافع بين القوى العظمى. كان هنالك انزياح للأطر القديمة وصعود كبير للجهود الإنسانيّة والتدخلات الإغاثيّة، فكانت هنالك حرب الخليج، وبدء المحاكمات الدولية لقادة يوغوسلافيا ورواندا، والتدخلات في الصومال والبوسنة وكوسوفا، وتوقيع معاهدة روما وإنشاء محكمة الجنايات الدولية، وقد رأى البعض كل هذه التحركات على أنّها خطوات للدخول في تلك المرحلة التاريخية المشتهاة، حتّى بدا أنّ الإمبريالية (مصطلحًا وظاهرة) صارت في طريقها إلى التحوّل إلى شيءٍ من التاريخ.

ولكنّ الإمبريالية وخلال بضع سنوات وحسب عادت إلى الساحة مجدّدًا، وراح أكاديميون وسياسيون غربيّون من ضفتي الأطلسي يدّعون أنّ اليساريين قد بالغوا في شيطنة الإمبريالية وأنّ قوميي اليسار وأكاديميّيهم منفصلون عن الواقع وأنّهم قد أصروا على إنكار حقائق القرن المنصرم. وشرع البعض يدّعون أنّ الإمبريالية التي مارستها بريطانيا في الماضي وتمارسها الولايات المتحدة في الحاضر ليست مفيدة وحسب بل وضرورية للحفاظ على السلم والاستقرار في العالم، مستدلّين على ادعائهم هذا بالحالة المزرية التي تعيشها الدول التي كانت من قبل تحت الاستعمار. وليس مصادفة أن تكون أفغانستان والعراق ضمن هذه الدول المقصودة، إذ قرّرت الولايات المتحدة غزوهما بعد أحداث الحادي عشر من أيلول.

ثم تراجعت هذه الحماسة المتجدّدة للإمبريالية بعد عمليات "الحرية الدائمة" في أفغانستان وحرب "تحرير العراق"، من دون أن يعني ذلك تراجعًا في الجدالات حول موقع الإمبريالية في ما يجري من أحداث على الساحة الدولية الآن، خاصّة عند النظر إلى دور حلف الناتو في ليبيا والوجود الروسي في أوكرانيا والمطالب المتزايدة لتدخّل غربيّ جديد في سوريا.

 

اقرأ/ي أيضًا: 

بندكت أندرسن و"جماعاته المتخيلة"

"ذكريات من منزل الأموات"..ديستوفسكي سجينًا