12-نوفمبر-2015

كاشيار الياسي/ إيران

لم تكن أمي في حياتها حكاءة، فمن أين لها مثل هذا الترف المتعوي لمن يجيدون الحكايات ويخلقونها، هي التي كانت تمضي جل يومها في تأمين كفاف يومنا. كانت في تعبها اليومي مأخوذة بإنتاج الحياة، لا في سرد وقائعها، كما لو أنها لا تعير بالًا للموت الذي يترصدها كما غيرها من البشر. 

ما أعرفه عن علاقة أمي بالموت شيئان؛ الرغبة بمواجهته والجهل بماهيته

ما أعرفه عن علاقة أمي بالموت شيئان؛ الرغبة بمواجهته والجهل بماهيته. ترجع معرفة أمي بمواجهة الموت، من خلال مشاركتها في حفلات البكاء في مآتم الآخرين كفرد متضامن مع أوجاعهم. فيما ترجع معرفتها بماهية الموت وعبثيته إلى تلك للترنيمة اليهودية التي سمعتها ذات يوم في حَوَاري مدينة طبريا في جنازة أحد منهم عندما كانت شابة: "من أين جاءك الموت يا حبيبي؟/ أجاءك من النافذة؟/ ويح قلبي/ لقد أغلقنا النافذة/ بربك قل لي: من أين جاءك الموت يا حبيبي؟".

تبدو الترنيمة الجنائزية بمثابة مساءلة للموت، واستنكارًا لمجيئه، والنظر إليه كعقوبة إلهية، حيث لا سبب واضحًا لحدوثه ولا طريق معروف يتعمد القدوم منه. ففي العمق تبدو تجديفًا ضد المشيئة الإلهية التي ضمنت الخلود الأبدي للنفس البشرية التي جاءت مع كتاب التلمود. يستمد كاتب الترنيمة السابقة ومؤديها مشروعية تفجعهم أمام الموت من ترك التوراة لهم دون عزاء. فالتوراة على عكس مثيلاتها من الكتب المقدسة في الديانات الإبراهيمية لا تحفل نصوصها بتصور القيامة كيوم للعدل الإلهي تتم فيه مكافأة المحسن ومعاقبة المسيء. بل تترك معتنقيها عرضة لتقلب مصائرهم في الحياة الدنيا، فالخلود فيها يتحقق من خلال قدرة القبيلة على هزيمة أعدائها وتمتع أفرادها بالغنائم والأسلاب التي حصلوا عليها بقوة سيفهم.

الترانيم الجنائزية أو البكاء الجنائزي من أقدم التعبيرات البشرية لمواجهة الموت من حيث كونه شرًا. حيث لا تزال مشاهدها حاضرة بقوة حتى اليوم وخاصة في المجتمعات الريفية العربية التي لم تسيطر الثقافة الدينية على فضائها العام بعد. من جهة أخرى تقدم لنا طقوس الندب في منطقة الفرات والجزيرة السورية مشاهد فرجة مسرحية أكثر ثراء وغنى من مثيلاتها. ففي "المعادة"، ساحة الندب، التي كانت تُعقد قرب الميت أو بجوار قبره أو في ساحة البيت على شكل حلقة، تبدأ الندب امرأة مدربة تدعى "القاصودة". في أثناء ذلك تتناوب النساء على الانفلات من الحلقة الواحدة تلو الأخرى، ليبدأن الرقص بشكل هستيري مع إيقاع منتظم من ضرب اليدين على الصدر، وفي أحيان أخرى تتقابل اثنتان منهن في الساحة لتقومان بمشاهد الندب واللطم على الصدر والفخذين وشد الشعر مع حركات منتظمة للأرجل، تتخللها مشاهد أخرى من القفز في الهواء مع التلويح بالأيدي.

الجذور الأولى لطقوس الندب الجنائزي ترجع إلى المجتمعات البشرية التي كانت تتخذ من السحر وسيلة لفهم العالم المحيط بها، شكلت الأحلام البشرية المادة الخام لتصورات الإنسان البدائي عن الحياة البشرية، في كونها حصيلة اجتماع عالمي الروح والجسد، فمن خلال الأحلام بدت الروح للإنسان البدائي كائنًا مستقلًا وجبارًا يمتلك قدرة القيام بأفعال خارقة يعجز عن تحقيقيها أو تنفيذها في حياته اليومية.

الوظيفة العملية من وراء عملية ندب الميت هي قناعة الأحياء في مساعدة أرواح الموتى في الذهاب إلى بيت الأرواح المخصص لها

الوظيفة العملية من وراء عملية ندب الميت هي قناعة الأحياء في مساعدة أرواح الموتى في الذهاب إلى بيت الأرواح المخصص لها، كون بقاءها في جوارهم سيلحق الضرر بهم. تولت النساء عبر التاريخ القيام بهذا الدور مرة لاحتكارهن السلطة والقيادة في مجتمعاتهن، ومرة أخرة كنوع من الدفاع عن أنفسهن في كونهن ناقلات لعدوى الموت بين أفراد القبيلة أثر وفاة أحد أفراد عائلاتهن. في سبيل تحقيق تلك المهمة اعتمدت النساء على استراتجيات الترغيب والترهيب والخداع، فالغاية من إظهار الحزن الشديد والبكاء على الميت، أو ذكر محاسنه والمبالغة في ذلك كما في العمل الذي تقوم به "القاصودة " في حلقات النعي، هي إقناع روح الميت وترغيبها بترك أهل الميت وعشتيرته بسلام.

لم يكن بإمكان الإنسان القديم التعويل على تقنية الترغيب وحدها، ربما لإحساسه العميق بأن رغبة الإنسان بالحياة تفوق رغبته بالموت، لذا كان عليه أن يلجأ إلى تخويف روح الميت لإجبارها على القيام بمغادرة دار الأحياء التي لم تعد تصلح لها، عبر البكاء المترافق بالصراخ، واللطم على الخدود، والرقص الهستيري المترافق مع القفز بالهواء والتلويح بالأيدي.

وعلى طريقة سد كل الثغرات التي يمكن أن تنفذ عبرها أرواح الموتى، كان على إنسان ذاك العصر أن يلجأ إلى تظليل الأرواح التي قد تصر على العودة إلى بيتها الدنيوي عبر تقنية الإخفاء بقصد التظليل، متبعين طريقة نفش وشد الشعر ولطم الخدود وإراقة الدماء، وصولًا إلى تلطيخ الوجه بالطين وتعفير الرأس بالتراب.

في سياق مختلف يمكن قراءة بكائيات "عشتار" في رثاها "لتموز"، في الأسطورة البابلية، على أنها محاولة في اكتشاف قدرة البكاء على تخويف آلهة الموت من خطر احتجازها لإله الخصب تموز وإجبارها على إعادته للحياة، فالبكاء على الإله تموز الذي يبدأ في اليوم الأول من شهر تموز على شكل مواكب جنائزية ويستمر لمدة عشرة أيام، ما هو في الحقيقية إلا جزء من مشاركة إنسان تلك الحقبة في اكتشاف موته السنوي الذي هو موت للطبيعة نفسها، وقدرته الدائمة على هزيمته عبر قيامة الطبيعة الدوري في الحادي والعشرين من شهر آذار. الأمر الذي جعل الإنسان البابلي يتصالح مع موته عبر إيمانه بقيامته الأبدية من عام إلى آخر، بعد أن كان فعل الموت في المتجمعات البشرية السابقة فعل خوف دائم من الفناء.

 

اقرأ/ي أيضًا:

السحر وامتلاك العالم

الجسد الشرقي في منفاه الثاني