18-يونيو-2017

مروان قصاب باشي/ سوريا

الليل يرخي سدوله، والقمر الحزين يرتّل آيات العزاء على البرية، ثمة امرأة واقفة بجانب شجرة السدرة في باحة البيت الذي نخر جدرانه الحزن.

تودع أيام عمرها كشجرة تودع أوراقها في بداية فصل الخريف، فأحمد فقدته في الحرب العراقية الإيرانية، وأياس طارت روحه مع تطاير الشظايا بعد انفجار هز المدينة صباح يوم الجمعة، لم تبقَ منهم غير الصور، وآه من ألم الصور أنها تجدد الحزن كل يوم، أنها تنفخ على جمرات القلب لتشتعل نارًا ، لكن ثمة صورة لم تتخللها آيات حزن وعزاء إنها صورة فائق التي تتوسط الصور، بابتسامته العريضة وعيناه العسليتين هو لم يصل خبر موته ولكن هي تسلي نفسها تارة في انتظاره، وتبكي تارة من دم قلبها على فراقه، فليس الحزن أن يموت لك حبيب، بل الحزن الحقيقي هو أنك لا تعرف هل هو على قيد الحياة أم مات وحيدًا، وابتلعت الأرض جسده، وشربت الطير من دمه، وهذه هي حيرة الانسان منذ الخليقة .

التحق فائق بقاعدة "سبايكر" يتأمل أن يتغير وضعه ووضع العائلة نحو الأفضل، استيقظ صباحًا مودعًا عائلته، وابنته الصغيرة نرجس تتكلم معه وتذكره بأن يفي بوعده وأن لا يتركها، ويعود بأقرب وقت، تقبله وتنزف دموعها، يقول لها بنيتي عندما أعود سأجلب لكِ لعبة بلون شعركِ الجميل.

غادر عتبة الباب ولم يعد.. حمل معه أرواحهم وعيونهم ... تاركًا في قلوبهم مكانًا خاويًا ينتظر أن يمتلئ... وجرحًا نازفًا ينتظر أن يبرأ... ولم يلبثوا حتى فاجأهم الإعلام بخبر مقتل 1700 شاب من الذين التحقوا بهذه القاعدة، بعضهم نجا بنفسه، والبعض الاخر فصل رأسه عن جسده. رموهم في نهر دجلة حيث أصبح للماء لون ولحيوانات النهر عزاء... آه لم تعد الحيوانات المفترسة مخيفة منذ ان صار الانسان يقتل اخيه الانسان بأبشع الصور!

الأم: بني فرقد أريد أن أزور النجف ومقبرة وادي السلام.

فرقد: إن شاء الله يا أمي سوف أذهب معكِ.

زاروا قبر الإمام علي بن ابي طالب، طابت نفوسهم عنده، ومن بعدها توجهوا إلى وادي السلام، الذي اختنق من الموت، فالعراقيون بؤساء حتى في موتهم! جثثهم تشكوا التدافع والزحام!

زارت الأم قبر أبنائها، غسلت قبورهم بدموعها.. فحين تثقل الروح بهمومها تنزف دموعًا، تسمع نشيد حزن قادم من بعيد: "تلك الام التي لم تدفن ولدها تموت كل يوم".

عادوا إلى الدار لتكلف الام ابنها فرقد بالبحث عن أخوه الذي انقطعت أخباره، لعله يجد خبر وجوده ليعيد الحياة إلى بيتهم الذي فقدت زواياه روح السعادة.

فرقد يتصل بأحد الأشخاص الذي أخبره سابقًا بأن لديه صور للناجين من قاعدة "سبايكر".

صار يصدق كل خبر يصل إلى مسامعه وكانه مختوم بختم جبرائيل.

- فرقد: أخي أنا مستعد أن آتي إليك في أي مكان كنت وأدفع لك المبلغ الذي تريده.

- أهلًا اخي أنا من محافظة ميسان، سأكون في انتظارك ..

- فرقد: حسنًا سوف أكون عندك بعد قليل فأنا من محافظة الناصرية، لكنني أسكن القسم الداخلي في ميسان، في أمان الله ونبقى على اتصال.

وصل فرقد إليه، وشرع يقلب الصور وقلبه يخفق عند كل صورة وهو يجد ملامح أخيه في تلك الصورة. آه إلهي الآن عرفت معنى "الشبه الأربعين"، إنهم هؤلاء الناس الذين يجدون ملامح أحبائهم في كل الوجوه. عاد فرقد منكسرًا ولم يجد صورة لأخيه.

"أماه، إن الموت هديه يا أماه، هل جف اسمي من شفاهك أم ما زال رطبًا سبحان قلبكِ من سواه، أماه لا تحزني لأي بأس، أماه كلنا ميتون وإن كنا على قيد الحياة، هذا الوطن لا يعرف الحياة ولا يجيد سوى لغة الموت، أماه إننا نعيش في وطن مصادر إن غدنا بلا غد... أماه إن دمائنا حبر يكتب بها السياسيون دعايتهم الانتخابية... أماه إن كراسيهم هي من صنع عظامنا".

استيقظت أم فائق من هذه الرؤية التي رأت من خلالها ابنها يكلمها بحزن، وقد أدركت معنى أن يكون الإنسان ميتًا وهو على قيد الحياة فالموت ليس هو الانتقال من عالم الى آخر الموت هو أن يموت فينا كل شيء ونحن على قيد الحياة!

في الناصرية أقيم مهرجان لذكرى شهداء "سبايكر" دعي إليه أهالي الشهداء والمفقودين.

- الأم: بني فرقد أريدك ان تذهب معي لعلي أتحسس شيئًا من خبر أخيك فائق.

حضر فرقد وأمه إلى المهرجان حيث حضرت عوائل الشهداء والمفقودين، وأقيم هناك معرض فني تناول هذه الحادثة المفجعة، ومن بعدها عرض تقرير عن الحادثة في شاشة عرض كبيرة. الأم تتابع ودموعها تحفر على خديها قصة الحزن، وقفت ورفعت يديها وصرخت بأعلى صوتها: اوقفوا الصورة إن هذا الشاب الذي يظهر أمامي هو ابني.

 

اقرأ/ي أيضًا:

كمغفرة تمسح ذنوب التعب

ها أنتَ تجرّني من قرنيَ في العتمة