عاشت المرأة في العراق مع الرجل، آثار الاستبداد في كل تفاصيله المريرة، فكان غطاءً ألقى بظلاله على الجميع. والمرأة في العراق، كانت فاعلة في الحياة السياسية والاجتماعية، في بغداد خصوصًا، وعانت من السجون والحرمان، سيما في الحزب الشيوعي العراقي الذي كان له دور ملحوظ في منتصف القرن المنصرم، وكان لها حضور أيضًا في الحركة الثقافية في البلاد ولدينا أسماء فاعلة كثيرة في الأدب والشعر والفن والمسرح.
كان هناك تحالف وتعاون بين الاستبداد الاجتماعي والسياسي على واقع المرأة في العراق
لكن دورها تراجع تدريجيًا بفعل الحكم العسكري، الذي يعطي الهيمنة للرجل أكثر، وتكون حساباته داخلة في أطر القوة والسطوة الذكورية التي يستخدمها في مساره السياسي.
كان هناك تحالف وتعاون بين الاستبداد الاجتماعي والسياسي على واقع المرأة في العراق، من أجل الحد من إرادتها وتدمير طاقاتها في التفكير والعمل والإبداع. وكما لم تكن النخب السياسية المتعاقبة على حكم العراق مؤمنة بقيم الديمقراطية الحديثة، فقد خرجت أيضًا من واقع عشائري، وبقيت هذه الرواسب القبلية تلقي بتأثيراتها على السلوك السياسي، وحتى وإن عاملوا المرأة معاملة حسنة لفترة ما أو أرادوا تشريع قوانين تنصفها، فإن هذه المعاملة بقيت متعلقة بإرادة سياسية معينة، وليس برسم منهج مستقبلي لدور المرأة في البلاد.
في حديثها لـ "ألترا صوت"، تقول الدكتورة لاهاي عبد الحسين، وهي أستاذة في علم الاجتماع: "لقد عانت المرأة من الاستبداد الاجتماعي كثيرًا، ولكن الزمن أثبت أنّ الاجتماعي أقل هونًا من الاستبداد السياسي"، مبينة أن من الصحيح أنّ النظم السياسية، استجابة لضغط العالم، سمحت للمرأة بالتعليم والعمل وتوسم الوظائف المهمة والمتنوعة، ولكنّها بقيت حبيسة السياسات والقرارات العشوائية والمزاجية والدينية. مشيرة إلى أنه "لم يحدث أنْ تصادم نظام بهذه القوى (المناهضة للمرأة) بصورة مباشرة وقوية، باستثناء محاولات محددة كما في تشريع قانون الأحوال الشخصية المرقم 188 لعام 1959، حيث أعطى القانون المذكور المرأة حيزًا أوسع من الحريات والحقوق مما كان سائدًا، ولكنّ هذه المحاولة اصطدمت بمقاومة شرسة. مقاومة استعرت ثم خمدت ثم استعرت من جديد على مدى ستين عامًا حتى اليوم".
اقرأ/ي أيضًا: أرامل العراق.. أرقام عالية ومعاناة مضاعفة
كان رجال المنظومة الدينية يمارسون استبدادهم على حياة المرأة العراقية بشتى الطرق، منها مقاومة القوانين التي تفرضها سلطة الدولة، التي أرادت أن تسير في قطار التحديث بعد الخمسينيات من القرن المنصرم، ومنها ما يتعلق بالعقيدة الدينية وسطوة رجال الدين الروحية على الناس، لترويج سرديات مثل أن حياة المرأة بين جدران بيتها فقط، ولا يحق لها أن تخرج أو تمارس دورها سواء في الوظيفة أو الحياة السياسية.
المرأة في المناطق المقدسة
رغم تأثيره في معظم مناطق العراق، لكن الضغط الديني على المرأة يكثر في المناطق المقدسة خصوصًا، وفيها تقاليد خاصة ولا يمكن العبور عليها. وفي حديثها لـ"ألترا صوت"، علّقت (زهراء) التي لم ترغب في ذكر اسمها الصريح خشية من الأسئلة العائلية والاجتماعية، وهي من النجف، المدينة المقدسة نتيجة لوجود مرقد الإمام علي بن أبي طالب، بالقول: إنه "بسبب المراقد المقدسة في المدينة تتولد أحكام وعادات تكاد أن تكون قانونًا أو شريعة لا يجوز لمرأة داخل حدود هذه المدينة أن تتعداها، في المظهر واللباس الخارجي من جانب، وفيما يتعلق في الممارسات المجتمعية من جانب آخر".
وتشير زهراء، إلى أنه "منذ فترة ليست بالبعيدة تحافظ البيوت النجفية حتى على عدم ذكر أسماء النساء، إذا أراد أحدهم أن يذكر زوجته يقول "الأهل". ويذكر أهالي النجف القدامى أنهم كانوا يسبقون كنية المرأة بكلمة "تِكرم" أي "أجلّك الله"، والتي عادة ما تذكر عندما تُلفظ أسماء الحيوانات والأشياء المعيبة. هكذا كان ينظر للنساء سابقاً".
ولم تنته هذه النظرة تمامًا، بسبب الرواسب الثقافية والدينية التي تركتها المدينة على واقع المرأة بشكل عام، لهذا فإن ميادين الثقافة والسياسة في العراق لم تشهد نساء فاعلات ينتمين إلى هذه المناطق المقدسة، النجف وكربلاء وسامراء، بسبب الاستبداد الديني والاجتماعي المتحكم بهذه المدن.
وحتى إن وجدت المرأة فسحة من الحرية في بعض المدن، مثل بغداد والبصرة ونينوى وحالات فردية في بعض المحافظات، لكن المرأة تعيش في معظم المدن العراقية تحت سطوة الرجل سواء كان بسبب التشدد الديني أو القبلي، مع صورة الرجل المعيل والحامي، وليس لها استقلالية اقتصادية، أو حتى فكرية.
تحافظ البيوت النجفية على عدم ذكر أسماء النساء، إذا أراد أحدهم أن يذكر زوجته يقول "الأهل"
تكشفت معضلة النساء العراقيات في مناطق الوسط والجنوب وجزء من المنطقة الغربية، مع نشوب الحروب أو مجازر الاستبداد ضد "الذكور"، حيث بقي جزء كبير منهن بدون معيل، بعد أن قتل أو سجن أزواجهن وأبناؤهن، وهن اللواتي لم يخضن في المجال العام، ولم يتعلمن العمل في أي مهنة، فبقين لأشهر يواجهن الجوع والحرمان والعذابات اليومية المتكررة.
مفهوم الشرف
من الأسباب التي تجعل المرأة تعتمد على الرجل اعتمادًا مطلقًا، وتجعله يتحكم بها بشكل استبدادي طاغ، هو مفهوم الشرف الذي يأخذ مكانًا كبيرًا في النقاش العام العراقي، وتعتقد الدكتورة لاهاي، أنه "مما لا شك فيه أنّ ارتباط مفهوم الشرف في المجتمع بسلوك المرأة على وجه التعيين، ساهم في الحدّ من طاقتها وإسهاماتها الخلاقة".
ليس للمرأة حق في المجتمعات العشائرية أن تتحدث برأيها، أو أن ترسم طريقها لوحدها، وهي التي لا زالت تتعرض للضرب والإهانة اليومية بمجرّد أن يسمع منها الرجل كلمة لا تعجبه، وهي ولا تتزوج كما تريد في بعض المدن، بل يُختار لها من قبل الأب أو الأخ الكبير، وأحيانا تتزوج بالإجبار ممن يقربها عشائريًا أو ابن عمها، وفي سن صغير لا تبلغ فيه الـ "18"، فضلًا عن حرمانها من الدراسة قسرًا. وتتفشى هذه الظاهرة في مناطق كثيرة من العراق، لكن جنوبه هو الأكثر.
تعتقد آلاء عبد الأمير في حديثها لـ"ألترا صوت"، وهي من جنوب العراق، أن "الاستبداد الموجه ضد النساء في الجنوب هو ذو طابع اجتماعي بالدرجة الأساسية، والذي قد يرتبط أو يعود سببه لأصول دينية بشكل أو بآخر". وتضيف أنه "نتيجة هذا الأمر على النساء والفتيات تكون بشكل أولي بترك مقاعد الدراسة، والزواج المبكر، والطلاق بسن صغيرة"، مشيرة إلى أن هذه "التغيرات الحادة في نمط الحياة تسبب مشاكل نفسية واجتماعية وقانونية للفتاة وذريتها -إذا أنجبت بسن مبكر- الأمر الذي ينتج حلقة مفرغة لا نهائية من سيناريوهات مشابهة ومتكررة".
اقرأ/ي أيضًا: سرى الخفاجي.. عراقٌ لا مرئي
وتلفت إلى أن بعض "النساء والفتيات قد ينجحن في كسر هذا الاستبداد في حالات قليلة ومتباعدة"، ما يشير إلى رغبة مكبوتة في كسر هذا الطوق الاجتماعي الذي لم تؤثر عليه السلطة السياسية، بسبب عدم الاستقرار الذي يشهده العراق، وعدم وجود نخبة سياسية تضع التحديث الاجتماعي والثقافة الديمقراطية من أولوياتها.
لهذا ترى عبد الأمير، أنه "دور الجانب التشريعي في الدولة يتمثل في الفشل في حماية أولئك الفتيات والنساء في المقام الأول عن طريق قوانين نافذة وحازمة، وعدم امتلاك الدولة لمؤسسات مؤهلة لمتابعة هذه الأمور قانونيًا واجتماعيًا وضمان حقوقهن كمواطنات في حال وقوع الضرر".
المرأة بعد 2003
ألقى سقوط النظام البعثي، عقب الغزو الأمريكي، القائم على الاستبداد بآثاره وتداعياته على المرأة العراقية أيضًا، فضلًا عن أن غطاء الاستبداد رُفع كاشفًا عن أمراضه بشكل فاضح، ليؤثر بشكل كارثي ومباشر على إرادة المرأة وحقها في الحياة، خصوصًا أنه حمل انهيارًا أمنيًا وحربًا طائفية، وغيّب الاستقرار السياسي بالمطلق.
لا تتعلق المشكلة بغزو 2003 فقط، إذ هي تراكم في الاستخفاف بحقوق المرأة، وإرث سياسي وثقافي أدى بنتائج وخيمة على حياتها، وهذا ما أشارت إليه آلاء عبد الأمير، حيث تقول إنه في "التسعينيات وما قبلها وما قبل 2003 كانت النساء تمر بظروف صعبة وما زالت". مستدركة: لكن "الفرق الذي من الممكن ملاحظته بعد 2003 هو انفتاح المجتمع بعض الشيء. أقول بعض الشيء لأنه ما زال يخضع لقوانين وأعراف اجتماعية صارمة إذا ما قورنت بمناطق أخرى"، مشيرة إلى أن "هذا الانفتاح البسيط الخجول سمح لبعض النساء بفهم ما لهن وما عليهن من حقوق وواجبات ممن لم يكن لهن ذلك قبل 2003. تحسن بسيط نراه هنا وهناك ونطمح دائما للأفضل".
أما الدكتورة لاهاي عبد الحسين فترى أنه بالرغم من الانهيار الأمني الحاصل بعد سقوط النظام الاستبدادي، لكن "الحسن على أية حال بعد 2003 أنّه كان للحرية النسبية التي سمحت بتأسيس منظمات المجتمع المدني وجماعات إعلامية وغير إعلامية نشيطة تقوم بين فترة واُخرى بإطلاق مبادرات جماعية للتوعية بمشاكل المرأة والمطالبة بنهضتها، مساهمة بدفع أعداد تتزايد ببطئ من النساء للمشاركة في صنع مستقبلهن".
لا تتعلق المشكلة بـغزو 2003 فقط، إذ هي تراكم في الاستخفاف بحقوق المرأة، وإرث سياسي وثقافي أدى بنتائج وخيمة على حياتها
وتعتقد ابنة النجف (زهراء) أنه بعد 2003 حدث تغيير لدى بعض العوائل الذين كانت تتحكم بهم قدسية المدينة، أما الآن، فقد أصبح باستطاعة النساء أن يحصلن على وظيفة، أو يدرسن في المدينة، ويرشحن للانتخابات، موضحة أنه "رغم هذا لا تزال هناك عقبات وحدود لا يمكن أن تتخطاها النساء في النجف كالزواجات ضمن نطاق عوائل معينة وعدم حرية الاختيار"، مضيفة أن المرأة من النجف في الوقت الحالي حتى لو وصلت إلى منصب قيادي، لا تتمتع بأي استقلالية، فأغلب من يرافقها ويتحرك معها هم أقاربها من الدرجة الأولى"، في إشارة إلى عدم ثقة هذه العوائل بالمرأة حتى لو وصلت إلى البرلمان!
نظام الكوتا.. المرأة في ذهنية المحاصصة
بعد 2003 جاء في الواقع السياسي العراقي، ما عرف بـ"نظام الكوتا النسائية في مجلس النواب"، ويقصد به تخصيص عدد محدد من المقاعد في البرلمان للنساء. ويتطلب تطبيق هذا النظام إلزام الأحزاب السياسية بتخصيص مقاعد لهن، ولا يجوز أن يقل عدد هذه المقاعد عن النسبة المقررة قانونيًا.
لكن آلاء عبد الأمير تعتقد أن "المشاركة السياسية ما تزال خجولة وقد تندرج تحت مسمى إسقاط واجب، لدى الكثير من الكتل السياسية التي تخضع مضطرة لقوانين المفوضية العليا للانتخابات بضم النساء في القوائم الانتخابية"، وتستدرك عبد الأمير: "لكن الدور السياسي الحقيقي والبارز والمؤثر ما يزال من نصيب الرجال وبفارق كبير عن مثيلاتهم من النساء"، ماضية بالقول: أمر آخر نطمح لتغييره عبر كل دورة انتخابية. وقد نكون محظوظين بما يكفي لنشهد في فترة حياتنا نساء جنوبيات يحظين بكرسي برلمان عن طريق بلوغهن العتبة الانتخابية وليس الكوتا".
اقرأ/ي أيضًا:
العشائرية في الانتخابات العراقية.. الديمقراطية أثاثًا وضيافة