تجد السخرية نفسها في أحيان كثيرة منغمسة داخل عوالم القهر والظلم والخراب المستفحل، فتكون وسيلة للتعبير عن مكنونات الألم ضد ما تمارسه السلطة وأدواتها، كما أنها تعبر عن مرارة ما حدث وما سيحدث. فيما كانت السخرية الشعبية، جزءًا من تفاعل الناس مع الواقع وطموحاتهم بالتغيير والتأثير، وهو ما أدركته الأنظمة المتعاقبة في العراق. ولقد كان قائل "النكتة" في البلاد وناقلها يعدمان في زمن النظام البعثي، خاصة النكتة التي تقترب من صدام حسين وعائلته.
تجد السخرية نفسها في أحيان كثيرة منغمسة داخل عوالم القهر والظلم والخراب المستفحل، فتكون وسيلة للتعبير عن مكنونات الألم ضد ما تمارسه السلطة
لم تكن السخرية ما بعد الاحتلال الأمريكي للعراق عام 2003، ظاهرة متداولة، في زمن كانت فيه أجساد العراقيين وهي ملتصقة بإسفلت الشوارع جرّاء الانفجارات والحرب الطائفية هي الظاهرة الأبرز في التداول العام، كما كانت لغة الفجيعة هي المهيمنة على كل بيت وكل جلسة تجمع الناس. كانت شوارع العراق وكل مركبة فيها مشروعًا لمفخخة قد تنفجر وتقتل حشدًا من الناس، في حين كان عرابو الحرب الأهلية، يستطيعون بسلاح جماعاتهم تهديد كل من يرفض الواقع، بالسخرية أو بغيرها.
اقرأ/ي أيضًا: باسم سليمان: القبور أول الأعمال الفنية
لكن نمو شبكات التواصل الاجتماعي في العراق أدى إلى أنماط جديدة من السخرية، فكان موقف فيسبوك هو النافذة الحرّة بعدما سيطرت أحزاب السلطة على كل النوافذ التعبيرية واحتكرتها في حالة اعتبرت امتدادًا لزمن الاستبداد. فلم تكن هناك قنوات غير ما تملكه الأحزاب والجماعات المسلحة، التي تعتبر جزءًا من حالة التنافس الطائفي في الفضاء العام، وكان العراقيون أقلية أمام حمى المحاصصة والصراع الطائفي على السلطة.
من المقابر.. ضحك على الموت!
من المقبرة؛ أكثر العوالم قهرًا وحزنًا، من فجيعة الإنسان الكبرى ومن حقيقة الموت نفسها، انطلقت السخرية في العراق. من مقبرة وادي السلام في محافظة النجف، حيث كان الدفان علي العمية الكعبي يطل من صفحته في فيسبوك بجملة شهيرة وساخرة "ادعو لي بالرزق والعافية". فيما يرد عليه العراقيون من خلال موقع التواصل الاجتماعي ساخرين أيضًا: "هل تريد أن نموت لتُرزق؟!"، فيتحول الحديث عن الموت إلى نكتة سوداء في عراق ما بعد الغزو الأمريكي.
كسر الكعبي نمطية علاقة الإنسان بالمقابر، والتي يدخل إليها مقطبًا وجهه، خائفًا من نهايته التي ستكون هنا، لكن الناس ومن خلال الفضاء التواصلي الجديد، بدؤوا يدخلون المقابر لتصوير مقاطع فيديو وصور مع الدفان الكعبي، ليصرخ هو "من يدفنكم؟"، فيجيبون "علي العمية الكعبي"، ثم ينتهي مقطع الفيديو بموجة صاخبة من الضحك.
كان الدفان علي الكعبي يطل عبر فيسبوك من داخل المقبرة، يتجوّل فيها صباحًا ومساءً متحدثًا عن إبداعه في التغسيل والتكفين والدفن والتعامل مع الميّت في قبره. يكتب على بعض القبور عبارة: "قبر ايطالي، ومرمر"، ويسأل متابعي صفحته بمنشور فيه صورة لقبر "ما رأيكم به؟"، بينما تنطلق التعليقات ساخرة تعلق حول جمالية القبر الذي يقوم علي الكعبي ببنائه.
كان هذا النوع من السخرية، جزءًا من صورة الموت المتكرّر في المخيال العراقي بعد الغزو الأمريكي، مع آلاف الجثث الملقاة في الشوارع نتيجة الحروب والإرهاب والميليشات والنزاعات العشائرية. بينما مثل علي العمية الكعبي سخرية عميقة وسوداء، من كون الموت العراقي عابرًا وغير ذي أثر، في زمن كان الضحايا فيه يتزاحمون على الأرصفة وتحت بقايا البيوت.
السخرية من تصريحات الرؤساء
كان دخول داعش إلى العراق في حزيران/يونيو 2014، فرصة لأن "يرزق" الدفان علي العمية الكعبي بموتى كثيرين، لكنه كان فرصة من نوع آخر أيضًا بالنسبة للعراقيين، للسخرية من مفاجأة اجتياح داعش لمحافظات البلاد، حيث انتشرت تصريحات رئيس الوزراء وقتها، نوري المالكي، في 10 حزيران/يونيو 2014، بأن "القوات المسلحة ستستعيد السيطرة على الموصل خلال 24 ساعة"، مع سخرية واسعة، إذ لم تتحرّر الموصل إلا في تموز/يوليو 2017، أي بعد ثلاث سنوات من التصريح، وفي وقت لم يكن المالكي فيه هو رئيس الوزراء، فيما لا يزال شبح التنظيم المتطرف يطارد إلى الآن أيام العراقيين.
لا تزال هذه المنشورات الساخرة من تصريحات المالكي، تشهد تفاعلًا منذ عام 2014، وحتى اللحظة، فيما يتفاعل العراقيون بسخرية من التصريح ومن الفجيعة معًا، حيث كلّف دخول داعش إلى العراق آلاف الأرواح، خاصة الشباب منهم، وملايين النازحين ومعاناة لم تنته إلى الآن. كتب أحد المعلقين على واحد من هذه المنشورات، بعد أربع سنوات من نشرها، يتساءل فيه "حررتها أم لا زلت؟".
أما في تشرين الثاني/نوفمبر 2017، فقد أعلن رئيس الوزراء السابق، حيدر العبادي، والذي جاء بديلًا عن نوري المالكي، أنه سيدخل حربًا مع الفساد، وكتب على صفحته الرسمية في فيسبوك: "سنحارب الفاسدين وسيستغربون مما سنفعله". انتهت 2017، وبعدها 2018، وانتهت ولاية العبادي، ولم يحاسب أي من الفاسدين المعروفين في العراق ولم يستغرب أي أحد. شهد المنشور نفسه في صفحة العبادي سخرية كبيرة في التعليقات، وبقي لأشهر طويلة والتعليقات الساخرة مستمرة فيه، إلى أن قام العبادي بحذفه للخلاص من السخرية اليومية في صفحته.
تحولت ظاهرة التعليقات الساخرة في صفحات "رؤساء الوزراء"، إلى ظاهرة احتجاجية على ما يمر به المواطنون من نقص في الخدمات والوظائف والأمن والاستقرار. في هذا السياق، كتب عادل عبد المهدي، منشورًا على صفحته الرسمية "فيسبوك"، في نيسان/أبريل 2015، يحمل صورة للخريجين الشباب، وكتب: "لو كنت مكان أولئك الخريجين أو العاطلين لسلكت طريق المطالبة من خلال الحملات على صفحات المسؤولين" في فيسبوك.
شاءت الأقدار أن يكلّف عادل عبد المهدي في تشرين الأول/أكتوبر 2018 بتشكيل الحكومة، وأن يكون رئيسًا للوزراء، فبدأت التعليقات على هذا المنشور حالما تسلم عبد المهدي المنصب، حيث كتب أحد الناشطين تعليقًا قال فيه "أنا لا أكسر كلمتك، فأنت وجهت بمطالبة المسؤول بالتعيين وبما أنك مسؤول، لذلك أحب (أن) أطالبك بالتعيين"، لتنطلق سلسلة تعليقات ساخرة عن المنشور عقب ذلك، متسائلة في الوقت نفسه عن ما يقوله عبد المهدي فيما لو نظمت حملات على صفحته وطبقت قوله قبل أن يكون رئيسًا للوزراء.
وتنطلق بين فترة وأخرى وسوم ساخرة من الوضع في العراق، مثل هاشتاغ #غسلت_ايدي_من_العراق، للتعبير عن رفض الواقع، وهو وسم يعبر الشباب فيه عن قلة أملهم إزاء الإخفاق المستمر في النظام العراقي.
ولاية بطيخ.. "مليان ساهون مليان"!
في العراق هناك نفوذ إيراني لا يخفى على أي متابع، كان كنتيجة حتمية عن نظام المحاصصة، وتحويله التشابهات الدينية والمذهبية إلى ولاءات سياسية، ويُقابل النفوذ الإيراني في العراق دائمًا بالسخرية، بالإضافة إلى النفوذين السعودي والأمريكي والتركي، واشتهر البرنامج العراقي الساخر "ولاية بطيخ"، بطرح هذه المحتويات السياسية الساخرة.
اقرأ/ي أيضًا: سنان أنطون: تركت العراق لكنه لم يتركني
فيسبوك.. بيئة مثالية للمحتوى الساخر
في السنوات الأخيرة، انتشرت في فيسبوك العراق البرامج المصورة الساخرة، التي تخرج بمحتوى لا يتجاوز الدقائق، وتناقش قضايا سياسية واجتماعية بطريقة ساخرة.
كان قائل "النكتة" في البلاد وناقلها يعدمان في زمن النظام البعثي، خاصة النكتة التي تقترب من صدام حسين وعائلته
يقول مقدم البرنامج الساخر "شي على شي"، مصطفى بهجت، إن "الفيسبوك هو فضاء يتواجد فيه أغلب العراقيين، فضلًا عن إمكانية الوصول فيه للجميع بلا محددات وقيود". مبينًا في حديثه لـ"ألترا صوت"، أنه "أخذ مساحة الفضائيات التلفزيونية بالاهتمام والمتابعة والوصول الأسهل للمقطع وسهولة انتشاره وارتفاع سقف الحرية، والذي يتيح للساخر تقديم ما يريده بلا حدود"، فضلًا عن أنه يمثل "البيئة المثالية للمحتوى الساخر".
وعن اختياره الخطاب الساخر في برنامجه ومساحات تأثيره، أشار بهجت إلى أن "هناك تأثير كبير، خاصة وأن السخرية ومعها النكتة السياسية تحوّلت إلى لغة الإعلام السياسي والاجتماعي الناقد الذي يبحث عنه الناس ليعبر بالنيابة عنهم، بالإضافة إلى تأثيره على وعيهم بقوة".
ويستخدم كثيرون الخطاب الساخر لأنه بات بيئة يجتمع حولها الناس ويفضلونه على الكثير من الخطابات، يقول "حسين تقريبًا"، وهو كاتب ساخر في الفيسبوك، ومعد سابق للبرنامج الساخر المشهور "البشير شو"، إن "الأسلوب الساخر هو الأكثر وصولًا للناس، وغير ممل لأن الناس تستمتع أثناء القراءة أو المشاهدة"، ويضيف في حديثه لـ"ألترا صوت"، أن "الناس عادة ما تلجأ إلى السخرية في مواقع التواصل الاجتماعي كرد فعل تجاه الأزمات حين لا يكون بأيديها حلول أخرى".
وإضافة إلى البرامج الساخرة في مواقع التواصل الاجتماعي، هناك الرسم الساخر، والذي اُشتهر فيه عراقيًا أحمد فلاح، الرسام الذي يتناول ساخرًا أي شخصية سياسية، مهما كانت قوية وتعتبر من التابوهات المحرمة على العراقيين، ويتناول دائمًا زعماء الفصائل المسلحة الذين لا يستطيع أن يتقرب منهم أحد، نقدًا وكتابة، وتلاقي لوحاته على فيسبوك تفاعلًا فريدًا. حيث إنه يتفاعل مع كل الأحداث اليومية من خلال هذه اللوحات الساخرة التي ينشرها على صفحته، والتي باتت تحل محل "النكتة السياسية" التي تخاف منها الأنظمة، حيث أشار بعض النشطاء إلى أنهم يخافون "من تداول لوحات أحمد فلاح".
غابت الدولة القومية.. فحضرت السخرية!
يمثل اللجوء إلى السخرية في العراق آمال الذين لم يحصلوا على دولة تحقق تطلعاتهم وما يريدونه. انتقل العراق من الاستبداد إلى الاحتلال وحكم المحاصصة والتوزيع الطائفي، وما يكتبه الناس ليس إلا تعبيرًا عن ما فقدوه من استقرار وأمان وحقوق وحريات مسلوبة. في هذا الصدد، يقول أحمد الحسيني، وهو كاتب محتوى ساخر، إنني "كتبت السخرية لأنها تقدم لي بكتابتها، على الأقل، عزاء أواسي به نفسي أمام انعدام كل القيم والمبادئ والرؤى التي تُبنى عليها الدول الحديثة"، مضيفًا في حديثه لـ"ألترا صوت"، "اعتقد بأني لو كنت مواطنًا في دولة ينعم أهلها بالعدالة والتوزيع السليم لفرص العمل، لما شهرت قلمي ساخرًا بوجه السلطة التي لا أرى منها غير الظلم والاستبداد وتمرير كل أجندات التخريب في بلدي"، مشيرًا إلى أن "السخرية هنا سلاحي الوحيد وسط ملايين القنابل وقاذفات اللهب والحروب والدم".
تحولت النكتة السياسية إلى لغة الإعلام السياسي والاجتماعي الناقد الذي يبحث عنه الناس ليعبر بالنيابة عنهم، بالإضافة إلى تأثيره على وعيهم بقوة
وأوضح الحسيني أنني "أكتب عن السخرية ليس بوصفها تنمّرًا او تهكمًا على شخصيات، بل السخرية بمفهومها المعارض المهشم لقدسية السلطة والاستبداد"، مبينًا "أنها مثلًا تعبير عن فقدان هوية الرفض والاستبداد. وكتابة السخرية وتنفيذها على شكل برامج أو مقالات، محاولة بائسة لإعادة تخليق هذه الهوية لتكون أشبه بسكينٍ في خاصرة هذا الخراب، ولو على سبيل التمنّي"، مشيرًا إلى أن "حتى لجوء الناس في مواقع التواصل الاجتماعي للسخرية، باعتبارها سلوك معارضة اجتماعية، يبقيهم في سلسلة البشر الرافضين للظلم والهوان والاستبداد".
اقرأ/ي أيضًا: سخرية على لحن عراقي حزين
ولفت الحسيني إلى أن "رؤية السخرية بمضامينها المتعددة، سواء كان المقال الساخر أو النكتة السياسية، يقدم للمتلقين إحساس الرضا، وبأن هناك من يستطيع النطق بعكس ما هو سائد. يستطيع أن يقول نيابة عن الناس الذين لا يملكون أدوات الكتابة أو السخرية المضادة للخراب الذي هم فيه، فيلجأون للاستماع وقراءة كل ما يحط من قدر الشكل الاجتماعي الذي عاشوه ويعيشونه".
تحولات السخرية من مضامينها السياسية
تدريجيًا صار السلوك الساخر هو الفعل الأكثر استخدامًا في مواقع التواصل الاجتماعي بالعراق، وانتقل بعضه من السياسي إلى الاجتماعي، ولهذا بدأت تنطلق تحذيرات من كثرته، وأنه من الممكن أن يكون غير مجدٍ أمام القضايا الكبرى التي تستحق أن يكون المواطن جادًا أمامها. حول هذا يقول الأكاديمي في علم الاجتماع، علي كريم السيد، إنه "بسبب ما يعانيه الفرد العراقي من أزمات ومصاعب في حياته اليومية، لجأ البعض إلى السخرية كوسيلة للانتقاد السياسي، فيما يسمى بالكوميديا السوداء، في ظل عدم اهتمام النخب السياسية بسماع رأي الناس"، مستدركًا "ولكني لاحظت أن السخرية بدأت تتحول إلى ممارسة يومية وطريقة تفكير نتعاطاها مع كل حدث وسلوك يصدر من النخب السياسية وحتى مع الحوادث الاجتماعية. وهذا باعتقادي يؤدي أحيانًا إلى الخروج من معالجة الظاهرة، أو الخطأ إلى الضحك عليه فقط وكأننا نستعمل السخرية لعقاب الآخر المختلف معه".
تقدم النكتة السياسية، للمتلقين إحساسًا بأن هناك من يستطيع النطق بعكس ما هو سائد
ويبيّن السيد في حديثه لـ"ألترا صوت"، أنه "قد يعتبر البعض السخرية السياسية وسيلة رد وتفاعل من الشعب مع القرارات الحكومية التي لا تخدمهم"، لكنه يفرقها عن نوع آخر من السخرية، قائلًا" "بماذا نفسر السخرية من فئات اجتماعية معينة مثل السود وقصار القامة وأصحاب الأقليات الدينية، ومن المرأة؟"، لافتًا إلى أنها "نوع من أنواع العنف الرمزي الناتج عن فهمنا الخاطئ للحرية وعدم مراعاتنا لمشاعر الآخرين وزيادة نسب القسوة والاضطهاد الاجتماعي".
اقرأ/ي أيضًا: