11-مارس-2019

محمد غازي الأخرس (فيسبوك)

بجزالة ورشاقة، ومثل منُقب خرج توًا من طريق ضيق، طريقُ حزين ومتعب أخذ من حياته فصولًا طويلة مفتشًا فيه عن ذوات العراقيين وطبائعهم، مثقفيهم و"مكاريدهم"، أغانيهم وحزنهم وشعرهم؛ يأخذنا الكاتب والمؤلف محمد غازي الأخرس في رحلة "جريئة" لمواجهة الذات العراقية وفرادتها التي لم يكُتب عنها إلاّ على نحو عابر، ليقدم لنا أجوبة تنفض الغبار عن الأسئلة "الأكثر إلحاحًا"، أجوبة تجرحنا وأخرى تسعدنا، كما يخبرنا ببعض أسرار ما خبأه في "دفاتره العتيقة".

تحدّث الأخرس في كتابه "المكاريد" عن الهاربين من "الظلم" من محافظات الجنوب.. ليملئوا نصف بغداد سكانًا ونصفها الآخر موسيقى وشعرًا وفنًا 

في كتابه "خريف المثقف في العراق"، أخرج الأخرس في العام 2011، ما بـ"جعبته" من زيف "المثقفين وأكاذيبهم وصراعاتهم، خداعهم وأنانيتهم"، وأكثر من ذلك، في مسيرة تفتيش عن سيرة المثقفين العراقيين لجيلين متتاليين (1990 -2008)، ليلحقه بكتاب آخر أسماه "كتاب المكاريد"، وهو أول كتاب يتحدث عن الهاربين من "الظلم" من محافظات الجنوب ليملئوا نصف بغداد سكانًا ونصفها الآخر موسيقى وشعرًا وفنًا، وبنظرة أنثروبولوجية يشرح الأخرس آلامهم وبؤسهم، فاحصًا كل طقوسهم وحكايتهم. ومن قصصهم وأشعارهم وأغنياتهم نسج لنا كتابه "قصخون الغرام.. في متخيل العشاق وأنثروبولوجيا الأنوثة".

اقرأ/ي أيضًا: زيد عمران: الرواية العراقية هي الرائدة عربيًا

ومثل ذكره لشوائب ومفارقات المجتمع العراقي في كتابه "دفاتر خردة فروش"، يرى الأخرس في حوار لا تنقصه الجرأة مع "ألترا عراق"، أن "المثقفين في مرحلة ما بعد 2003 جزءًا من خراب العراق رغم أن بعضهم قدموا أشياء رائعة. نعم، غالبيتهم كانوا سلبيين واندرجوا في مشهد الخراب بوصفهم جزءًا منه، جزء من خطورته تكمن في خيانة الدور الذي يفترض أن يتكفلوا به. الأحرى أن غالبيتهم كانوا أبعد ما يكونون عن إزعاج السلطات، السياسية والاجتماعية والثقافية. مفهوم إزعاج السلطة واسع ويبدأ من توجيه النقد مرورًا بخلخلة اليقينيات ولا ينتهي إلّا بتفكيك الأنساق السائدة في المجتمع. الأمر أوسع من السياسة طبعًا".

خريف المثقف لـ (محمد غازي الأخرس) 

ويتساءل أبو الطيب، الأخرس، "هل فكر المثقفون مثلًا في تفكيك القيم العشائرية السائدة في مجتمعهم؟ كم منهم فكّر في هزّ أسس التفكير الجمعي الذي حوّل الجماعات إلى حشود تتحرك بالغريزة؟ عدا هذا، من منّهم حاول بشجاعة تعرية المثقفين "الجيفاريين" قولًا و"الفاسدين" فعلًا؟ أتحدث عن ازدواجية دمّرت الثقة التي كان يفترض بالمثقف أن يحوزها. مستدركًا "تراه مثلًا يتظاهر في ساحة التحرير كل أسبوع، لكنه في بقية الأيام يعمل مجرد "برغي" في مؤسسات تمولها أحزاب السلطة! يدعو لتحرير المجتمع من سلطة رجل الدين غير أنه يوميًا يقدّم الولاء من حيث يدري ولا يدري لأنموذج رجل الدين نفسه؟، موضحًا "هذه الأزدواجية أكبر أنواع الخراب برأيي، وهي فساد ثقافي لا يقل خطرًا عن الفساد الإداري الذي لا نتوقف عن الإشارة إليه يوميًا قائلين: انظروا لهذا السياسي ما أفسده، وفي الوقت الذي نقول ذلك ترانا نمارس فسادًا ثقافيًا أنكى وأمرّ".

  • مالذي يميز المثقفين العراقيين عن سواهم من الآخرين؟

المثقفون العراقيون فئة ظهرت منذ قرن أو أكثر، وما يميزهم عن سواهم من الفئات أنهم يتقدمونها، لهذا يسمونهم "الطليعة"، وهذا متأتِ من افتراض أنهم يختصرون عصرهم وآلام مجتمعهم وأحلامه، غضبه إذا غضب وثورته إذا ثار. في البدء أطلقوا عليهم الأفندية، وهم أولئك الذين تخرجوا من المدارس وارتادوا المقاهي، الذين اعتادوا قراءة الصحف وإيصال ما فيها للآخرين. هذه هي مزيتهم التي يفترض بهم أن يحوزوها، تقدم الجموع وقيادتها للتنوير، مع هذا فإنهم انفصلوا عن الناس وتعالوا عليهم. حملوا فانوس التنوير وبحملهم له باتوا يعاملون الناس كالعميان. شيء غريب لكنه أصبح واقعًا لا يمكن نكرانه، والعلة تكمن في كونهم صاروا يحتقرون الفئات الأخرى ويعدون أنفسهم "أرفع" من الجميع. هذه الخصائص تتفاوت من جيل لآخر، فهي مع جيل المثقفين الرواد تكاد تختفي، لكنها تزداد قوة وظهورًا وصولًا إلى هذه الأيام، والنتيجة أن المثقف انعزل عن الجميع وبانعزاله ضاعت عليه فرصة تحسس النبض الحقيقي للشارع.

محمد غازي الأخرس: العراقيون عشاق أسطوريون ورثوا الغرام عن إينانا وعجنوا خميرته بدمهم

  •  يبحث عامة العراقيين عن جواب شافِ "لماذا لم يتعلم ساسة ما بعد 2003 الذين عادوا من أوروبا، رقي الأخيرة وتحضرها ونموذج الدولة والديمقراطية لديها؟". ماذا حدث في مضمارهم، وأنت المنقب عن أنثروبولوجيا أصولهم؟.

كيف تريدهم أن يتعلموا وهم لم يفهموا روح أوروبا؟ كثير منهم حتى اللغة لم يتعلموها فكيف تريدهم أن يتعلموا قيم تلك القارة؟ لقد عاشوا هناك متطفلين، يسكنون سجونًا ذاتية صنعوها بوعي حول أنفسهم وعوائلهم. لم يتخلصوا من قيمهم القديمة ولم ينجحوا في الاندماج بالأوروبيين. لماذا هم هكذا؟ سؤال محير تجيب عنه أوضاعهم الغريبة بعد التغيير. لقد عاد كثير منهم وفِي أذهانهم أنهم عائدون لصفقة تجارية لا تتكرر إلا مرة في العمر، لذلك عليهم استثمارها ما أمكنهم ذلك. عادوا لصوصًا "شرعيين" بعد أن غادروا "ثوريين" معارضين. جاءوا لصوصًا بهيئة "مستشارين" و"وزراء" وزعماء قوى سياسية، ثم اختفوا مع انتهاء صفقاتهم الشخصية. لماذا هم هكذا؟ أتصور أن ذلك عائد إلى تمكّن ثقافة "النهب" منهم، وهذه الغريزة "الأصيلة" في منطقتنا، تنتعش بمجرد اكتشاف سياق مساعد، وبظني أن العراق الفوضوي كان أفضل بيئة لانتعاش هذه "النهيبة" التاريخية. 

  • في قصخون الغرام، يأخذنا أبو الطيب إلى متحف كبير للحب وما يدور في خلد العشاق على الطريقة العراقية، مالذي يميز الحب عراقيًا؟.

العراقيون عشاق أسطوريون ورثوا الغرام عن إينانا وعجنوا خميرته بدمهم. يعشقون في الصباح والمساء، وفِي كل الفصول، لغتهم غرام يطارد هيامًا، استعاراتهم عشقية وكناياتهم كنايات حب. يغنون حبًا ويرقصون حبًا، يعيشون حبًا ويموتون من الحب، وما يميز الحب عندنا أنه سرعان ما يتحول إلى جنون بدليل أن في حياة كل منا حكاية أو حكايات أبطالها عشاق مجانين أو شارفوا على الجنون. كل هذا حاولت تلخيصه في كتاب "قصخون الغرام" وأتمنى أن أكون قد نجحت.

مجموعة من كتب محمد غازي الأخرس (ألترا عراق)
  • إذا سألك أجنبي عن "شخصية العراقي"، كيف تختصر وصفه؟

العراقي غريب الأطوار، شخصيته متطرفة "يفرط في شحّه والغنى". حين يعشق يموت دون حبيبته، وحين يغضب سرعان ما ينقلب إلى وحش. إذا صفا خاطره صار نبعًا رقراقًا، وإذا تكدّرت نفسه تحول إلى صحراء قاحلة. العراقي حزين لكنه عاشق للحياة بنفس الوقت. صانع للطغاة ومدمّر لهم. متعال نرجسي، ومع هذا يزدري نفسه ويستهين بقدراته. لهذا يجلد ذاته ويطيح بها أمام المرآة. شجاع حد الجنون إذا آمن بقضيته، غير أنه مستعد لتسليم البلد للغزاة إذا كان ناقمًا على السلطة التي تحكمه. نسيج وحده، عميق وطريف، مملوح ومبدع، بيد أنه سرعان ما ينقلب إلى نقيض هذا كله في لحظة تحيّر في تفسيرها.

  • في "خريف المثقف العراقي" تطرقت إلى محور الهوية العراقية والصراع حولها في أكثر من حقبة.. ما الذي يكشفه هذا الصراع، وما خصوصيته؟

الهوية العراقية أكبر مشكلة واجهت أجدادنا وآبائنا وتواجهنا الآن. بدأ المأزق عندما انفصلنا عن العثمانيين ووجدنا أنفسنا مضطرين لمعرفة من نحن. الساسة والمثقفون لعبوا دورًا أساسيًا في صنع المعضلة منذ العشرينيات، ومع الزمن تعمق المأزق حتى وصلنا إلى لحظة الاحتراب الداخلي وضياع البوصلة. في البدء، انقسمنا إلى عراقويين وعروبيين، ثم اقتتلنا ثقافيًا بين ضفة اليسارية والقومية، ثم بين العسكر والمدنيين، وصولًا إلى تفجر الصراع بين المتريفين والمتمدنين. وفي نهاية المطاف وجدنا أنفسنا نقتتل بالأيدي والأسنان طائفيًا ودينيًا وعرقيًا. من هو العراقي؟ أهو اليساري أم القومي؟ أهو المطبل للطاغية أم المترنم بالديمقراطية؟ الشيعي أم السني؟ الكردي أم العربي أم التركماني؟ والخ. هذا المنطق من الصراع تجسد أكثر ما تجسد في الثقافة، وقبل "خريف المثقف"، ثمة "ربيع المثقف" و"جحيم المثقف"، وكلها مراحل مررنا بها بحثًا عن هويتنا. هل سنعثر عليها؟ لا أدري.

محمد غازي الأخرس: الهوية العراقية أكبر مشكلة واجهت أجدادنا وآبائنا وتواجهنا الآن

  • وأنت تطالع نصوص الشعراء والكتاب والمثقفين في "فيسبوك".. مالذي يكتشفه أبو الطيب من نوازع خفية للشر والعنف والكره والطائفية؟

الأمر عجيب حقًا، إنني أراهم وألمسهم وأوشك أن أحترق بنارهم وأصيح آه من لدغهم بعضهم بعضًا. هذه ظاهرة تستحق وقفات، فرغم فوائد "فيسبوك" التي لا تعد، ثمة ضرر نفسي يطال من يدمن عليه، وهو تأثره بمقدار الكراهية الكبير المنبث من بعض رواده، بل لنقل الكثير منهم. إنهم عنيفون لفظيًا، طائفيون مرعبون، يكرهون حتى أنفسهم ولو لم يجدوا أحدًا يصيبونه بسهامهم لصوبوها لقلوبهم. أعتقد من جهتي أن "فيسبوك" أسهم في إنعاش نوازع الشر التي كانت تبحث عن قناة تظهر بها، وهو يبدو مناسبًا تمامًا لشخصيتنا الاجتماعية الميالة إلى الطعن في الظهر وإظهار العيوب وتحويل ما هو ثقافي إلى شخصي.

  •  تطرق حنا بطاطو إلى أزمة المجتمع والدولة وتفاقمها منذ تأسيس الدولة العراقية، ما فرق هذه الأزمة عن أزمات ما بعد 2003؟

الحقيقة أنني أرى الأمر بالشكل التالي: دولة ما بعد 2003 هي دولة جديدة بالكامل لا علاقة لها بالدولة التي درسها حنا بطاطو. التغيير كان فوقيًا وطال النظام السياسي، لكنه أدى إلى تدمير البنية المجتمعية الموروثة من عراق القرن العشرين بالكامل، وهذا سبب أزمات من نوع جديد أهمها أزمة في فهم الهوية الوطنية. لقد أعيد السؤال البدئي من جديد: من هو العراقي، ومعه أعيدت صياغة العديد من الأسئلة المتداخلة: ما هي العلاقة بين الدين والدولة؟ ما هي العلاقة بين الهوية الفرعية والهوية الوطنية؟ ما هو الشكل الأنسب للعلاقة بين أجزاء العراق الجغرافية والثقافية والعرقية والدينية؟ هكذا وصولًا لإعادة السؤال البدئي عن علاقة العراق مع محيطه العربي والإقليمي. كل هذه أزمات مستحدثة تعبّر عن تغيرات جذرية حدثت في بنية الدولة وأثّرت، من ثم، في البنى الاجتماعية القارة. لقد تخلخل كل شيء وبتنا نعيش في مرحلة اضطراب عظيم. 

محمد غازي الأخرس: استبشر في أن ينجز الشباب لبلادنا ما عجز جيلنا عن إنجازه

  • ما دور مواقع التواصل الاجتماعي في تصدير وتسويق الموروث الشعبي العراقي؟

هذه المواقع رحمة سقطت من الغرب علينا، وأفادت كل فعالياتنا الثقافية بما في ذلك الموروث الشعبي. تخيّل أن شبانًا في العشرينيات من أعمارهم بات بمستطاعهم سماع مطرب مثل كريري السلمان، ورفيقه جويسم مثلًا في "اليوتيوب". تخيل أن مئات الكاسيتات الشعبية أصبحت متاحة لنا. لا بل تصور أن بعض أحلام الفولكلوريين صارت واقعًا فأصبح بمقدورهم سماع نعي النساء واضحًا، والانصات للطمهن في المآتم كما لو كانوا يجلسون بينهن. شخصيًا كنت أحلم بذلك قبل شيوع مواقع التواصل الاجتماعي، وهو الآن متاح. كل شيء متاح، قصص من الثقافة الشعبية، أشعار، حكايات شعبية، أغاني، رقص، يا له من شيء مبهج!.

  •  ما الذي تستبشر به خيرًا في العراق؟

 استبشر في أن ينجز الشباب ما عجزنا عن إنجازه.

  •  هل أثر الإعلام الجديد على طبيعة المجتمع.. كيف وما الذي تغير؟

نعم أثر كثيرًا، لقد تغلغل إلى البيوت والعقول بطريقة يصعب السيطرة عليها. الكثير من القيم المتحجرة بدأت تهتز، طرائق التربية، فهم الآخرين، التحرر من السجون النسقية، كل ذلك أسهم به الإعلام الجديد من فضائيات ومواقع إلكترونية ومواقع تواصل اجتماعي.

  • لو أراد أبو الطيب أن يخبرنا بجرأة عن الذات العراقية ومكنوناتها كما في "دفاتر خردة كروش"، ما الذي سيخرجه من "دفاتره العتيقة" ليقول لنا مالم يقله من قبل؟

هناك الكثير مما لم يقل ولا يمكن اختصاره بدفتر أو دفاتر. الذات العراقية بئر من الأسرار كلما حفرت فيها اكتشفت المزيد، ولو كان بيدي لدرت في البيوت لأدون حكايا الناس ومن ثم استخلص منها الخصائص الاجتماعية وسيكولوجيا الذات المقهورة بنسختها العراقية. أتمنى ذلك وأعمل عليه جزئيًا.

  • ما طقوس الكتابة عند أبو الطيب؟

طقوس الكتابة لدي أن تكون لدي الرغبة فأشرع، أحيانًا تنتابني هذه الرغبة وأنا في سيارة الكيا فأدون الملاحظات في التلفون، وبعد أن أعود أكملها. مرات استيقظ من النوم لأدون فكرة ما، ثم أعود للسرير. وغالبًا ما تأتيني الأفكار فجأة، وأنا أمارس رياضة المشي مثلًا أو أنا سارح في وجه أحدهم، هو يظنني أستمع إليه لكنني في الحقيقة سارح بفكرة معينة. فكرة كتاب "قصخون الغرام" ولدت هكذا، فجأة صرخت مع نفسي: وجدتها، ولمدة يومين كنت لا أطيق الحديث مع أحد لأنني مستغرق في التفكير في الكتاب. طقوس الكتابة عندي هي حب واستغراق تام بغض النظر عن المكان والزمان.

  •  ثلاث كتب وثلاث أغنيات وثلاث أفلام يقترحها الأخرس لقرّاء موقع "ألترا عراق"؟

أرشح للقرّاء كتب: "حفريات المعرفة" لميشيل فوكو، و"مقدمة في التاريخ الآخر" لسليمان بشير و"الطبيعة البشرية" ألفريد أدلر.

ثلاثة أفلام أقترحها: "المريض الأنجليزي" للمخرج أنتوني منغيلا، و"باريس والآخرون" أو "نحن وهم" لكلود ليلوش، و"العراب" لفرانسيس كوبولا.

ثلاث أغنيات: أغنية "نعيمة" من تراث الجنوب، و"مستحيل" لوردة الجزائرية و"الإطلال" لأم كلثوم.

 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

ماذا يقرأ العراقيون؟

شاكر الأنباري في "أقسى الشهور".. شرقٌ فقد التوازن