18-يناير-2016

الروائي العراقي علي بدر (Getty)

يعرض الروائي العراقي علي بدر في رواية "الكافرة" (منشورات المتوسط 2015) واقعًا، يبدو عصيًّا على السبك الأدبي، وهو الحياة في ظلّ حكم الجماعات الإسلامية المتشددة. لكننا، سنشهد بتحول أنماط الحكم تلك إلى واقع عنيد وشديد التركيب، سنشهد أدبًا مقاومًا للتشوهات التي يحفل بها الإنسان الخاضع لثقافة الموت. حتى ليتبدى، ذلك الأدب أدبًا غارقًا بقضايا الجموع. ويبدو الاشتغال على الشخصيات اشتغالًا على أنساق معرفية، قادت مجتمعاتنا إلى واقع لا يكف عن تنميط الناس وجعلهم أرقامًا. 

يشتغل علي بدر على الشخصيات اشتغالًا على أنساق معرفية، قادت مجتمعاتنا إلى واقع لا يكف عن تنميط الناس وجعلهم أرقامًا

اختار الكاتب، منذ البدء، زاوية مختلفة كي يطرح المسألة التي هو بصدد معالجتها، إنّه حبّ من النظرة الأولى، بين صوفي وأدريان، ولو عدنا لتعريف ابن حزم الأندلسي لذلك الحب، وهو: "أن يعشق المرءُ صورة لا يعلم من هي ولا يدري لها اسمًا ولا مستقرًا" لوقعنا على سر السرد الشعري الذي أخذ على عاتقهِ إيضاح كلّ منهما للآخر، وللقارئ. والذي سيصل إلى رؤية واقعية، في كون كلّ منهما أحبّ صورة الآخر فيهِ، لقد كانا متشابهين حدّ التطابق، وهذا بالضبط، ما دعاهما إلى الافتراق في النهاية. تميّز العمل بالحساسية الجمالية عند الحديث في شؤون الحب والشوق، ولو أنّها رواية كتبت عن العنف والموت المباشر!

تبدأ حكاية فاطمة من سيطرة المتشددين على قريتها النائية، وفرضهم حياةً بلا ألوان ولا فرح. عاشت مع والدتها عذابات كثيرة، خسرا رجليهما بعد تنفيذهما، بشكل منفصل ومتباعد، عمليتين انتحاريتين، ذهب ضحيتها الفقراء والمهمشين مثلهما. 

إلا أنّ فاطمة، تترك كلّ شيء وتهرب إلى بلجيكا ولتصبح من حينها، صوفي. تتعرف هناك على أدريان، والذي له هيئة رجل اسكندنافي، لتكتشف، على التتالي، مجموعة حقائق مخفيّة عنه، هو من أصل لبناني، ووالده كان مقاتلًا في ميلشيا مسيحية، قبل أن ينتهي منتحرًا ويتزوج إدريان إحدى ضحايا والده. وفق هذهِ الحبكة، رسم علي بدر، حياة بطليه، ليظهرا من منبت واحد، هو العنف الديني والقسوة وإرث الأحقاد غير النهائي، ولينتهيا إلى نهاية واحدة، هاربين من ماضٍ يستحيل الهروب منه.

يذكر علي بدر، مسوغات عدة، تدفع أحدهم إلى الانضواء في تنظيم إرهابي، لا تخرج في جلّها عن الصورة النمطية لمقاتلي هذه التنظيمات، وديدن الأدب، فهم دوافع الناس قبل الانشغال بمحاكمتهم. لقد دفع الفقر والإهمال والرغبة في الأهمية، والد صوفي للقتال مع الإرهابيين، معتقدًا أنّ القوة ستعطيه الهيبة. وزوجها يضطر في مكان آخر إلى الانضمام للمقاتلين حتى يأمن شرهم، قبل أن يفقده موت والدته اتصاله مع الحياة الواقعية، لقد حضّر الكاتب هذه الشخصية، ليندفع الرجل إلى تفجير نفسهِ، حالمًا بسبعين حورية في السماء! أما والد أدريان، فقد كان قتل أهله من قبل ميلشيا مسلحة، كافيًا، لإشعال حقده ورغبتهِ بالانتقام، والتي ارتدّت إليهِ منتحرًا في النهاية.

في "الكافرة"، أيّ موت أفضل من الحياة في ظلّ ثقافة تختصر المرأة ببكارتها، وتجعل من الرجال "سلسلة من الرعب"

تبرز قدرة الكاتب على توظيف المشاهد لإيصال فكرةِ ما، إنّه بهذا يبني عالمه الروائي الصاخب بالعنف والدماء، بهدوء وخفّة. يكتب مشهد فاطمة وهي تعد الشاي في المطبخ ومن سيصبح خطيها جالس أمامها ووالدتها، بالكثير من البراعة الهادفة. ويروي كذلك، المشهد القاسي لرجم "الكافرة" والتي ستحلم فاطمة بأن تصيرها، في الساحة، على أنّه هبط على المجتمعين هنالك مثل "هدية" هكذا إذًا، منذ دخول المسلحين بدأ الناس تمجيد الجريمة وباتوا مهووسين "بالسيطرة والانتصار" وتحول كلّ فرد في القرية إلى "طاغية" وحلّت كلمات مثل "كافر، وثني، مرتد" مكان كلمات الحبّ المتألقة.

يعرض الكاتب فشل كلّ من صوفي وإدريان في التصالح مع تاريخهما، حتى غدت حياتهما في الغرب انعكاسًا مؤسفًا لعقد بالغة الخطورة، ها هي صوفي تنام مع سبعين رجل عابر، تبدأ الحكاية معها بصفة "انتقام محض" يؤول إلى "لعبة ضد الرجال". لكنها، لا تجد في الانتقام السعادة المنتظرة، إنما "الحزن والأشباح والكآبة العميقة".

بدت الرواية عبثًا في جرح لم يلتئم بعد، حيث يبدو أيّ موت أفضل من الحياة التي عاشتها فاطمة، في ظلّ ثقافة تختصر المرأة ببكارتها، وتجعل من الرجال "سلسلة من الرعب". يخلص علي بدر إلى حقيقة مؤلمة في كوننا "أمة أشباح" حتى إدريان، النصف عربي، كان يخفي تاريخه مثل "عاهة" وصوفي تشبّه حياتها بالسر، وتطمس بالكامل، أصولها العربية، أية أزمة وجودية تفتك الوعي، جربت "الكافرة" تلمّس أطرافها!

 

اقرأ/ي أيضًا:

زمن السيداف.. حفر في الرمال المتحركة

سمير قسيمي.. في مجتمع مُغتصب