01-ديسمبر-2018

تسبب بوش الأب بمجاعات في العراق وتفكيك لمجمل المجتمع (Getty)

بالرغم من أن شهر تشرين الثاني/نوفمبر، بدا طويلًا على كثير من العراقيين، مع أزمات خدمية وقمع وعطش، لكنه هذه المرّة جاء إليهم، وإن في أواخره، بنبأ كان جزءًا من الرسائل، التي يمكن إحالة تأويلها قدريًا، في هذه الحياة، أي الموت، الحتمية الأكثر إذلالًا من الصواريخ وحمم النيران وفرض العقوبات وتدمير الشعوب.

يرتبط اسم بوش الأب بحصار دام 13 عامًا على العراق، كانت له تجلياته المريرة في التفكك الاجتماعي وانهيار الطبقة الوسطى وتراجع كامل مناحي الحياة

كانت وسائل التواصل الاجتماعي العراقية ملأى بالإدانات، بعد خبر وفاة الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الأب عن 94 عامًا، إذ يرتبط اسم بوش الأب بحصار دام 13 عامًا، كانت له تجلياته المريرة في التفكك الاجتماعي وانهيار الطبقة الوسطى وتراجع التعليم مع الوعي، فضلًا عن الانقسام والحرب الطائفية التي بدا الحصار أحد أسبابها المتعددة، بالإضافة إلى الصواريخ التي دمرت البنية التحتية في العراق وفي المؤسسات الخدمية منها وغير الخدمية.

اقرأ/ي أيضًا: آلاف حالات التسمم في البصرة.. مشهد مكتمل لمدينة منكوبة

حرب الخليج الثانية

لم تكن لصدام حسين، الرئيس العراقي الأسبق، لغة أمام من يعارضه غير حبال المشانق والمقابر الجماعية، ولم تكن له لغة للتفاوض وحل الخلافات خارجيًا غير الحروب وإظهار القوة بشكل مبالغ به، وهذا ما بدا جليًا في خلافه مع الكويت، إذ كان بدايتها يشتكي من ازدياد إنتاج الكويت النفطي على الحصة المقرّرة لها من منظمة أوبك، وهو ما كان سيؤثر سلبًا على الاقتصاد العراقي الذي يريد أن يعمل على إعمار ما تركته الحرب مع إيران التي دامت لثماني سنوات، حسب رأيه ورأي السلطة آنذاك.

وفي منتصف تموز/ يوليو 1990، رفع العراق شكوى ضد الكويت في جامعة الدول العربية، لكن واشنطن، برئاسة جورج بوش الأب، اتخذت سياسة ستكون لاحقًا مبررًا لشخصية مثل صدام حسين، لخوض الحرب وغزو الكويت، إذ قالت سفيرة أمريكا لدى العراق في لقاء جمعها مع صدام حسين في 25 حزيران/ يونيو، إن "أمريكا ليس لها رأي بشأن الخلافات العربية العربية"، وستخلف هذه العبارة، التي بدت ضوءًا أخضر، مصائب كبرى على مستوى المنطقة العربية بشكل عام، وبلا أدنى شك على كل من الشعب العراقي وشقيقه الكويتي.

دخل صدام حسين وجيشه إلى الكويت، لكن أمريكا التي تركته منذ البداية يهدّد مصير الشعبين العراقي والكويتي بدعوى أنها لا تتدخل، قادت تحالفًا ضده، استخدمت فيه قوة عسكرية هائلة، وصلت في اليوم الواحد إلى ألف غارة جوية، حيث يتذكر جيل الشباب الآن، الذين كانوا أطفالًا، أن الخوف العراقي بالنسبة لهم، بدأ من صفارات الإنذار التي كانت تطلقها الطائرات الأمريكية في بغداد وبعض المحافظات، والتي لم تقتصر على المنشآت الحكومية أو قصور صدام حسين. إذ قصفت الطائرات الأمريكية، ملجأ في حي العامرية، غربي بغداد، في شباط/ فبراير 1990، أسفر عن مقتل أكثر من 400 عراقي، كان أكثرهم من الأطفال والنساء، بالإضافة إلى قصف الجامعات ومراكز الاتصالات ومنشآت التكرير والجسور والسكك الحديدية، ومحطات توليد الطاقة، ومنذ ذلك اليوم، وحتى الآن، لم تشهد البيوت العراقية، كهرباء مستقرة، أي أن كامل البنى التحتية العراقية ذهب مذهب ريح عاصفة الصحراء بزعامة بوش الأب!

لم تؤثر خطوة صدام حسين المتهورة، في غزو الكويت، على النظام الحاكم وحسب، إنما على الشعب العراقي جميعه ومعه شقيقه الكويتي

بوش الأب.. ذاكرة الجوع والحصار!

لم تؤثر خطوة صدام حسين المتهورة، في غزو الكويت، على النظام الحاكم وحسب، إنما على الشعب العراقي الذي تحمل عواقبها الجسيمية 13 عامًا، إذ عقد مجلس الأمن جلسته في 6 آب/أغسطس 1990 لبحث قضية غزو الكويت، وأصدر قرار (661) الذي يقضي بعقوبات اقتصادية شاملة على العراق، ثم تتابعت القرارت الدولية بقيادة أمريكا للتضييق أكثر على الاقتصاد العراقي، والذي سيفرز فيما بعد كوارث اجتماعية هائلة، كان النظام بعيدًا عنها، في قصوره ذات الأسوار العالية والمزخرفة.

اقرأ/ي أيضًا: تظاهرات البصرة.. نار القمع والإفقار تأكل عاصمة اقتصاد العراق!

سقط الناتج المالي الإجمالي في العراق سقوطًا مدويًا، ثم انقطع الغذاء والدواء، إضافة إلى الفقر الذي انتشر أسرع من النار في الهشيم، ليصل العراق إلى منتصف التسعينات من القرن المنصرم وقد توفي فيه مئات الآلاف جراء الجوع ونقص الدواء والغذاء، مع خناق كامل على العراق وشعبه الذي كان في عزلة شبه مطلقة، شملت حتى طيرانه، حيث لم يكن للعراقيين حق في الطيران لأي دولة سوى الأردن.

أعيد العراق حرفيًا إلى مراحل ما قبل الدولة، إذ ساهم الانهيار الاقتصادي ومن خلفه الاستبداد بتفكك المجتمع بشكل غير مسبوق، كما شمل الجوع جميع الطبقات الاجتماعية، سوى طبقات قليلة متصلة بالسلطة البعثية آنذاك، ما خلف تمايزات هائلة، وقد استمر المجتمع في تراجع كارثي إلى أن أفرز الحصار ذاته وما بناه الرئيس جورج بوش الابن، في الغزو الأمريكي على العراق عام 2003، نظام المحاصصة الذي سينتج حربًا طائفية يكون القتل فيها على الهوية!

مات جورج بوش الأب، في ساعة متأخرة من الليل، مع بداية كانون الأول/ ديسبمر، لكنه رحل وليل أمريكا مضيء، بينما لا يزال ليل العراق مظلمًا منذ أن أمر بالقصف على منشآت الطاقة الكهربائية في البلاد، ولم يرحل دون أن يترك العراق، دولة طوائف مفكّكة، لا تزال آثار الحصار بادية على ملامح الأماكن فيها، وعلى الوجوه التي تبحث عن الاستقرار منذ غزو العراق للكويت، فتصطدم بجدران كثيرة، بنت إدارة بوش الأب أساساتها.