22-يونيو-2023
مكتبة

في أحد أسواق النجف ( Getty)

إن "صلاحية أي انتماء هي مصداقيته أمام نفسه". فتحي المسكيني، الإيمان الحر

لا توجد إحصائية علمية تثبت مدّعاي حول الفقر المدقع لجمهور قرّاء الكتب الدينية. فقط يمكنك التثبّت من هذه الادّعاء من خلال الأنشطة السنوية لمعارض الكتاب، حيث تلاحظ حضور متواضع وفقير لقرّاء الكتب الدينية. ليس هذا فحسب، بل في تجاربنا اليومية نعثر على عشرات العيّنات يمكنها أن تؤيد ما نذهب إليه. أكثر من ذلك، عموم المتدينين أنفسهم لا يحرّكهم الشغف الكافي للاطلاع على كتب العقائد والفقه وما شابه ذلك. أمّا طلّاب الحوزة الدينية، فالجواب عند ذوي الشأن ما إذا كان ثمّة معادلة مغايرة لما ندّعي، رغم أنني أميل إلى نفس الادّعاء.

تحتوي كتب العقائد على لغة سجالية مملّة لم تتقدم خطوة واحدة في طبيعة الطروحات والمنهجية المُتَّبَعَة

ربما يرجع السبب الرئيسي لغلبة التكرار والتدوير على مجمل المواضيع الدينية، فأنت تقرأ ذات الموضوع منذ قرون لكنّه قد يتمظهر بأشكال تعبيرية مختلفة، هذا إذا كان حقًا ثمّة أشكال تعبيرية مختلفة! ناهيك عن اللغة السجالية المملّة في كتب العقائد التي لم تتقدم خطوة واحدة في طبيعة الطروحات والمنهجية المُتَّبَعَة. والخلاصة أنّ الكتب الدينية بمجملها تراثية من حيث لغتها ومواضيعها ومنهجية بحوثها.

وبالتأكيد ثمّة استثناءات في هذا الباب ونقاط مضيئة، ربما سيكون السيد كمال الحيدري أحدها، نظرًا لطروحاته ومساءلاته الجريئة والشجاعة فيما يتعلّق بالموروث من جهة، وسعة اطلاعه وانفتاحه على البحوث والدراسات التي تقع خارج تصنيف المؤسسة الدينية من جهة أخرى، وهي عادة  تندرج ضمن العناوين الرجيمة والمغضوب عليها من قبل أعضاء المؤسسة الدينية. لكن الحيدري من خلال اطلاعه على مفكرين "عَلمانيين" أمثال محمد أركون، عبد الله العروي، ومحمد عابد الجابري، جورج طرابيشي، عبد الإله بلقزيز، محمد شحرور، وغيرهم، أقول من خلال اطلاعه على هؤلاء أضفى طابعًا دينامكيًا للدروس الحوزوية، لعلها حركت الراكد في الدروس الدينية وأعطت بعض الزخم المعنوي لجيل المتدنيين الشباب بعيدًا عن تلك النبرة السجالية المعهودة التي اعتادت عليها الكتب المذهبية. إذ لم نعهد الحوزات الدينية أن تتجرأ بطرح مواضيع مثيرة من قبيل "حوار مع الملحدين" أو "مدخلية الزمان والمكان" وغيرها.

وبالطبع لا تكفي محاولات السيد الحيدري، على أهميتها، لبثّ الحياة من جديد في الدروس الدينية، حيث تبقى لأغلبية هذه الأجيال الجديدة عالمها الخاص، وهذا الأخير ينسجم مع ما يقدمه الذكاء الاصطناعي والميديا المترامية الأطراف. هذا العالم يقدّم نفسه بالمجّان ويمنح مريديه، ما لم يعثروا عليه في بطون الكتب الصفراء. حتى المواقع الدينية المتوفرة بكثرة على الشبكة العنكبوتية لا تشبع فضولهم على الإطلاق، وهو نفس التدوير والتكرار، ولم تضف له هذه النقلة أي شيء يُذكر، كل ما في الأمر تم تحويل ذات المواضيع المملة ونسخها على هذه الشبكة.

المهم في الأمر، ثمّة أسباب كثيرة تجعل من أناس أمثالي لا يستقبلون مطالعة الكتب الدينية برحابة صدر. ليس من باب التعالي والاحتقار أو تصغير من شأن هذا العالم، فهو عالم له مريدون ومحبون بكل تأكيد، وله مصنّفون ومحققون كبار، وباحثون وكتّاب. ربما سيتفق معي عدد ليس بالقليل من كلا الجمهوريَن على وجهة نظري، أو ربما سنُفاجَأ بنوعية الكتب التي يطالعها جمهور المتدينين مقارنة بالكتب الدينية التي تُعنى بشؤونهم العقدية والفقهية.

إنني أوجه المقال هنا للقرّاء وليس لهؤلاء الذين تغلب عليهم النبرة الكفاحية حتى لو كانوا لا يعلمون عن ماذا يتكلمون. لكن، على أي حال، دعوني أوضح السبب الشخصي وراء عدم تقبلي لقراءة كتاب ديني (وبشكل أخص: كتاب مذهبي) بالمقارنة مع الكتب الأخرى.

بعض الأحيان أقرأ كتابين في آن واحد وأقسّم الوقت بينهما مع وضع الكتاب الرئيسي موضع الأولوية وأعطيه المساحة الأكبر من الوقت. هذه الطريقة هي نتيجة لتأملات طويلة قادتني بسبب السؤالَين التاليَّين: كيف يمكنني السفر في الأزمنة الماضية وخوض رحلة إنسانية طويلة وأنا بالكاد أقرأ كتابًا واحدًا؟ وكيف يمكنني أن أنال حريتي وأكتشف وجودي الخاص، ما لم أعثر على الكتاب المناسب لذلك، وبالتالي ينبغي علي مضاعفة عدد القراءات واستثمار الزمن استثمارًا مثاليًا.

في الشهر الفائت أضفت في الجدول كتابًا مذهبياً يندرج ضمن الكتب السجالية التي تدافع عن "المذهب الحق"، وكان الكتاب الرئيسي الأول هو كتاب فلسفي.

 حاولت تقسيم الوقت فلم أستطع! حيث كلما توغلت في الكتاب الفلسفي ازداد شغفي بالاستمرار وقلّ اهتمامي بالكتاب الثاني. ليس لأن الكتاب الثاني سيئ بالمطلق، بل لأنه لا يعلمني كيف أكون حرًّا في تفكيري؛ هو يريدني فقط أن أضع عقلي قربانًا على مذبح القناعات المٌسبَقة بهذيان سجالي واندفاع عدواني يحاول يخفيه بموضوعية مُصطَنَعَة. يريدني أن أكون مذهبيًا صالحًا وأن أقدّم كل فروض الطاعة والولاء لهذه الفكرة: الآخرون هم الجحيم. الآخرون غرباء عن موطن الحقيقية؛ وحدي أنا، المذهبي الصالح، من يمتلكها.

المرء لا يتعلم من "الكتب المذهبية" أن يكون حرًا 

أما الكتاب الأول، لا يريد لحريتي أن تكون حرية تلوّثها الضغائن بقدر ما تتدفق من ينبوع المعنى اللانهائي. حريتي تمنحني الشجاعة لأن أذهب في فكرة ما إلى ما لا نهاية. هذا هو درس الإيمان الحقيقي الذي يعلمنا إياه الفيلسوف كيركغور. الإيمان الذي يُحدِث انعطافة هائلة لدى هذه الذات الفانية، وتوتر شديد بين المتناهي واللامتناهي، يجعلني هذا التوتر متجدد الصلاحية، في صيرورة دائمة أبحث عن المعنى. قال فتحي المسكيني: "الإيمان هو جرأة على غواية الله؛ أي على تجريبه بوسائل بشرية. هو اختبار محفوف بالمخاطر لإمكانية الله في أفق البشر. ولذلك ليس الإيمان "عقيدة" مكّرسة إلا عرضًا. وربما لا ينبغي له. الإيمان ليس مؤسسة؛ بل هو حركة تشكيلية. وذلك لأن الله ليس صنمًا؛ بل هو إمكانية تجريب لما لا يمكن فهمه، لكنّه يتخلل وجود البشر من الداخل". هذا هو الدرس الفلسفي للإيمان. ما الدرس الذي تمنحنا إياه الكتب المذهبية؟ لا شيء، لا شيء على الإطلاق سوى استلاب لكل مصادر العقل الحر.