03-يونيو-2019

يبدأ الناس بالذهاب إلى المقبرة قبل العيد بيوم واحد، لقضاء أول أيام العيد عند أحبابهم (Getty)

قُبيل العيد قد تحاول أن تضع برنامجًا يكسر رتابة أيامك ويخرجك من أجواء العمل، وقد تجري جولة على عروض السفرات السياحية أو تفكر بزيارة الأقرباء والأصدقاء، وبالوقت الذي تزدحم الشوارع والمتنزهات والمراكز التجارية بالناس، تغص مقبرة وادي السلام في محافظة النجف بالزائرين طوال أيام العيد، تُقطع الطرق ويسير المئات نحو قبور أحبائهم في شوارع ترابية تحت أشعة الشمس الحارقة، يحملون قناني ماء الورد وعلب البخور، يغوصون بين القبور المتلاصقة بشكلٍ فوضوي، فيما يظل معظمهم الطريق إلى قبور ذويه، حيث تتشابه أجزاء المقبرة وترفع فوق قبورها صور الأموات كسارية العلم، والنساء أكثر من الرجال دراية طرق المقبرة المختصرة نحو قبور ذويهن.

بالوقت الذي تزدحم الشوارع والمتنزهات والمراكز التجارية بالناس، تغص مقبرة وادي السلام في محافظة النجف بالزائرين طوال أيام العيد، تُقطع الطرق ويسير المئات نحو قبور أحبائهم تحت حرارة الشمس

 ويسمى كل شارع رئيسي "الفتحة" وتبدأ المقبرة من الفتحة واحد وصولًا إلى تسعة، ويرتبط عدد "الفتحات" بتوسع المقبرة، وتتنوع القبور حيث يمثل السرداب أقدمها وهو عبارة غرفة تحت الأرض بعمق أكثر من متر تتسع لعدد من القبور وتكون مخصصة لعائلة واحدة، وبفعل ازدياد عدد الأموات ولتوفير المساحة استخدمت القبور العمودية.

لا تختلف مقبرة وادي السلام في العيد عن الأماكن السياحية الأخرى من حيث الزحمة (Getty)

ويدفن الكثير من العراقيين موتاهم في مقبرة وادي السلام، حيث يُقدمون من أقصى جنوب العراق قاطعين نحو 500 كم، إضافة إلى محافظات أخرى بينها العاصمة بغداد، فيما تشير التقديرات إلى أن حقبة احتلال العراق وما بعد عام 2003 شهدت حوالي 200-300 جثث كانت تدفن هناك يوميًا، فيما انخفض المعدل في 2010 إلى أقل من 100 يوميًا، أما المعدل السنوي فهو 500 ألف جنازة في كل عام، وتضم القبور ضحايا المعارك التي خاضها العراق في العصر الحديث بدءًا من المعارك ضد الاحتلال البريطاني في عشرينيات القرن الماضي، مرورًا بضحايا الحروب التي خاضها العراق ضد "إسرائيل"، بالإضافة إلى حربي إيران والكويت، وصولُا إلى ضحايا الاحتلال الأمريكي وما خلفه من أزمات في البلاد كان الموت نتيجتها الحتمية، فيما لا يقتصر الدفن على طائفة معينة أو عرق محدد، بل يوجد فيها المسيحي والمسلم السني والشيعي والعربي والأجنبي، على الرغم من أن أكثر المدفونين فيها من الشيعة، وتحظى مقبرة وادي السلام بهذه المكانة والأهمية لوجود قبر الإمام علي أبن أبي طالب بالإضافة إلى عدد من الأنبياء، كما أدرجت المقبرة على قائمة التراث العالمي لليونسكو.

لا مرآب في العيد

في العادة تصطف سيارات الأجرة في المرآب حسب وجهتها لانتظار الركاب، ولكن في العيد يختلف الأمر، تُهجر المرائِب وتتوزع السيارات عند بدايات الشوارع لتمتلئ بغضون دقائق، الآلاف يقصدون النجف، أمهات فقدن أبنائهن في الحروب وأخوات وحبيبات لم تكتمل دورة أحلامهن بعد، بعباءتهن السود وعيون مغرورقة  يصطبحن الأطفال لمعايدة آبائهم، وغالبًا ما تكون المعيادة في رحلة جماعية لنساء الحي لينقضي الطريق على إيقاع النعي الجنوبي ومخاطبة الأموات، حيث تتحدث المرويات الإسلامية عن سماع الموتى نداءات ذويهم ويرونهم، لذلك يقول من يعتزم الذهاب إلى المقبرة "سأذهب لأرى فلان ليحمله الجميع السلام"، وعند القبر يحدثه عن العائلة والظروف ويسرد الأخبار السعيدة والحزينة، فيما يوصون الكبار من الموتى بالصغار المدفونين بالقرب منهم. 

يقف العدد من ذوي الضحايا لأكثر من ساعة أمام قبور من يحبون (Getty)

يقول الباحث أحمد البزوني "لم تقتصر علاقة الأحياء بالموات وما يتخللها من زيارات ومناجاة على العراقيين فحسب، والحال هو امتداد للحضارة الشرقية التي تحتوي موروث زاخر بهذه الطقوس والكثير منها في غاية الغرابة، مستدركًا "لكنها بالنتيجة تلتقي في التركيز على رمزية الموتى ومكانتهم الخاصة ومناجاتهم وهي خليط بين المشاعر تجاههم والتقديس كونهم فيهم عالم أفضل من الدنيا بحسب معتقداهم، فضلًا عن الحضارة الإسلامية التي أشارت بوضوح إلى زيارة القبور ونقلت بعض الروايات علاقة الأنبياء والأولياء الصالحين بالقبور وزياراتهم لها".

اقرأ/ي أيضًا: حفلات الموت المستمر.. العراقيون يحيون أعيادهم عند المقابر
أضاف البزوني في حديث لـ"ألترا عراق"، أن "السياقات الثقافية والخصوصية التراثية للبلدان هي من تحدد طرق التعامل مع الميت وترسم ملامح العلاقة مع القبور، لذلك تجد شعوبًا تبقيّ الموتى في البيوت وتعظم من شأنهم، فيما تعمد شعوب إلى صناعة توابيت لها ارتباط بقصة حقيقية للميت، وأخرى تعبدهم وتسعى للحفاظ على قبورهم من تطوّر العمران والتوسّع في المشاريع الخدمية، ولا تقف عند ذلك ففي الحضارة الصينية يتحدث الأحياء إلى الأموات ويسردون لهم الأخبار من بعدهم".

أشار البزوني إلى أن "عمق علاقة العراقيين بالقبور كثيرًا ما تكون بفعل أسباب الموت وخصوصية الأموات، فالحرب التي ثكلت العشرات بأبنائهم وهم شبان، فضلًا عن المتزوجين منهم وعلاقة زوجاتهم وأولادهم معهم، جعلتهم يعملون على زيارتهم بشكل متواصل، فيما يجدن النسوة في المناطق المحافظة من زيارة القبور جسرًا نحو الحرية والخروج بعذرٍ شرعي، ولتكون المقبرة هي ملاذ عزاءاتهن يندبن قدرهن وحياتهن ويشكين لاحبائهن الحال".

في السياق، يقول رجل الدين علي الشريفي، أن "هناك العديد من الروايات في التراث الإسلامي تؤكد على الدفن في مقبرة وادي السلام، كونها تضم أنبياء الله، آدم ونوح وهود وصالح، بالإضافة إلى الإمام علي، فيما تشير بعض الروايات إلى مكانتها وتشريفها قبل دفن الإمام علي فيها، حيث وردت رواية وقصة في كتاب مدينة المعاجز، أن الإمام علي كان جالسًا هو وأصحابه في ظهر الكوفة، فوقف ونظر ثم قال: هل ترون ما أرى؟ قالوا لا، قال إني أرى رجلين يحملان جنازة على جمل، وتستمر الرواية حتى تقول إن الإمام وأصحابه انتظروا حتى وصلت الجنازة، ومعها ٢ فسألهم الإمام من أنتم ومن صاحب الجنازة، قالوا نحن من اليمن وهذه جنازة أبانا أوصانا أن لا ندفنها إلا هنا أي في النجف"، مبينًا في حديث لـ"ألترا عراق"، أن "المرويات الإسلامية تؤكد على أن الدفن بهذه المقبرة يشفع للميت بفضل الصالحين المدفونين فيها".

يتميز العيد في العراق بطقوس الحزن والبكاء المر على ضحايا الحروب والفوضى (Getty)

أضاف الشريفي، أن "جذور زيارة القبول بحسب الروايات تعود إلى عصر النبي محمد، حيث يروى أنه كان يزور القبور ويكثر من زيارتها ويأمر بزيارة القبور مثلًا في حديثه، إذا ضاقت عليكم الصدور فعليكم بزيارة القبور، والكثير يجعلها علاج نفسي لقسوة النفس وضيق الصدر إضافة إلى استحبابها شرعًا"، لافتًا إلى أن "الحديث مع الموتى ومخاطبتهم يعد أيضًا من الاعتقاد أن الموتى يسمعون ويرون الزائر بروايات عن الأئمة".

حكايات من بين القبور

تبدو الحياة مختلفة عندما تسير على الشارع الرئيسي، وأنت تعد "الفتحات" على يمينك باحثُا عن "الفتحة" التي تريدها، يتوزع عند بداية كل "فتحة" أطفال وشبان يبيعون ماء الورد والشموع والبخور، وهو تقليد شعبي حيث يشتري الزوار منهم ليضعوهن على القبور، فيما ينتشر المئات من الرجال "الدفانة" في شوارع المقبرة مستخدمين الدراجات النارية للتنقل، يسارعون عند سماعهم بكاء الزوار نحو القبور يبدؤون بقراءة القران والأدعية من الكتب الدينية طمعًا في المال وهم بثياب رثة قساة القلب، كما يرى زائرو المقبرة، والأمر لا يتعدى كونه عملهم، ولم يدرسوا في المدارس الدينية ولا يمتلكون معرفة دينية غير القراءات البسيطة، وهم دليل الصحراء، يعرفون معظم القبور بالاستناد إلى دلالات معروفة، كمقابر العشائر أو قبور رموز المجتمع، وتمتلك كل عائلة "دفّان" خاص لها.

رجل سبعيني قام هو وزوجته ببناء غرفة بجوار قبر ولده الوحيد الذي قتل في حرب "داعش" الأخيرة، يسكناها معظم أيام الشهر يطبخون ويأكلون هناك!

وهناك قصص عن ذوي موتى معروفة على مستوى المقبرة، مثل حكاية أبو خضير، الرجل السبعيني وزوجته الذي بنى غرفة بجوار قبر ولده الوحيد الذي قتل في حرب "داعش" الأخيرة، يسكناها معظم أيام الشهر يطبخون ويأكلون هناك، فيما يجالس زوار المقبرة لمعرفة قصص موتاهم لعله يجيد ما يهون عليه مصبيته وفقًا للقول الموروث من "رأى مصائب الناس هانت عليه مصيبته"، وهناك أيضًا العديد يقومون في الزيارات الرئيسية للقبور في عيدي الفطر والأضحى والمبعث النبوي أواخر شهر رجب، بالمكوث في المقبرة لأيام لتوزيع الطعام وتقديم الخدمات للزوار والبقاء أكثر عند قبور أحبابهم.

 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

زبائن الموت يتكاثرون على وادي السلام

أعياد العراق.. أفراح منقوصة