مؤكد أن العمل السياسي على وجه الخصوص يقوم على التجربة وليس على الخطابات الجوفاء. إن السياسة ممارسة وليست تحشيدًا من الصيغ المنطقية. وكل يوم تثبت لنا الوقائع بما لا يقبل الشك، أن السياسية ميدان مصالح لا ميدان مبادئ. طبعًا هذه ليست معلومة عظيمة، لكنها تصبح عظيمة في وضعنا العراقي الراهن، فيمكنك أن تعرف كل شيء، لكنك لا تهتدي إلى فهم سليم حول طبيعة المحركات والدوافع التي تتحكم بنخبنا السياسية: هل هم محكومون حقًا بإطار أيديولوجي صلب، أم تحرّكهم الوقائع العملية ويتخذون من المصالح عنوانًا لسلوكهم السياسي؟ لا هذا ولا ذاك ثابت في أدبياتهم، فالعنصر الغالب على مجمل أفكارهم وسلوكياتهم هو غياب الرؤية وردود الفعل الآنية، والعمل لمصالحهم الشخصية، لا أكثر ولا أقل.
والسؤال الآخر: ماذا يحرك أكثر الناخبين للتمسك بهؤلاء؛ البرامج الحزبية أم الأواصر العقائدية، وماذا ربحوا من هذه وتلك؟ لا شيء على الأطلاق. تتحرك الأحزاب طبقًا لمصالحها الشخصية، ويتحرك الناخبون طبقًا لهوياتهم العقائدية؛ تتحرك الأحزاب ضمن مساحة واسعة في ميدان المصالح، ويتحرك الناخبون ضمن ميدانهم العقائدي. الأول شديد الوفاء لمصلحة حزبه ومقربيه، والثاني شديد التمسك بهويته الوثوقية الصلبة لدرجة أنه لا يقوى على نقد ممثليه في البرلمان خوفًا على ضرب العقيدة وشماتة الخصوم! كنّا في السابق نبرّر لهذه التناقضات الحادة بحجّة فقدان البديل وخراب البلد. بمعنى كنّا نخشى من الفراغ السياسي والنتائج الكارثية التي تترتب على غياب هذه الأحزاب من المعادلة السياسية. غير أن التجربة أثبتت أن وجود هؤلاء أحد مسبّبات الخراب. والأغرب من ذلك كله؛ إصرار الناخبين على ضرورة التمثيل الطائفي لنفس الوجوه. أي لا بدّ من ممثل طائفي ينوب عنهم في البرلمان. والأغرب من ذلك الإصرار على نفس الوجوه.
المشكلة الأخرى، ولا أظنها ستختفي في المستقبل القريب على أقل تقدير، هي الوثوقية الغريبة لدى جمهور الأحزاب العقائدية، وانشغالهم بالحذلقة المنطقية والجدل العقيم للدفاع عن عقيدتهم، كما لو أن معارضة سياسات هذه الأحزاب تعني بالنسبة لهم معارضة العقيدة! لذلك ينشغلون، لا شعوريًا، بالهجوم على أي حركة اجتماعية تحاول التغيير واعتبارها خصم عقائدي. بدلًا من المساءلة القانونية لهذه الأحزاب الفاسدة يكافح جمهورهم بتخوين المعارضين وتشويه سمعتهم دفاعًا عن العقيدة! وبطريقة غريبة يتحول السياسي الفاسد إلى رديف للطائفة الحق. هذا الجمهور العقائدي المكافح، هذا "الجمهور السعيد"، ستجد أغلب مناصريه، والمتحمسين لأحزابهم السياسية، يقطن في أحياء سكنية لا تصلح للعيش البشري، بينما هو مشغول بالصيغ المنطقية الجدلية لإثبات أحقيته وضمان انتصاره بالجدل الفارغ. كما لو أن القضية تتوقف على كمية من الجدل المنطقي لنثبت أننا على حق.
حتى لو كنت على درجة عالية من الوثوقية لدرجة أنك مستغرب ممن لا يشاطرك ذات الأمر. فمن الحماقة، بل من الفضيحة أن تفشل في إقناع الآخرين. وأغلب الظن أن جذور فشلك ترجع إلى هذه الحقيقة: كثرة الحذلقة المنطقية وعجزك عن تقديم النموذج. ليست الأمور بهذه البساطة: الركون إلى الجدليات المنطقية الصورية والتغافل عن قوة النموذج الإقناعية. القضية أكبر بكثير من كبرى وصغرى ونتيجة منطقية. لا يمكن، على سبيل المثال، أن تجبر الناس على الإيمان، لأنك، ببساطة شديدة، ستحيلهم إلى كائنات منافقة شديد العداء لما تدعوهم إليه. وقس ذلك على العمل السياسي؛ ما لم تختبر صروحك المنطقية التي نسجتها في ذهنك من دون تجربة، فأنت وخصومك في صندوق واحد! النظرية لا تعني إسقاطاتك الذهنية وأحلامك ورغباتك المحروم منها، النظرية تعني خلاصة استنتاجاتك من الوقائع لتنتزع منها لاحقًا نموذجًا تفسيريًا يعينك على فهم الواقع وتناقضاته. وهذا الفهم ليس نشاطاً ذهنيًا أو حماسًا عقائديًا فحسب، وإنما عملية استنطاق شاقة ومرهقة يتكفل في تبيانها البعد العملي. ما عدا ذلك، فأنت في أحسن أحوالك لست سوى روزخون يبيع الأمل الزائف للآخرين. بل ستكون أحد الأسباب المنطقية لتفتيت الهوية العقائدية. ولذلك، لا أحد يمكنه تفتيت التنظيمات العقائدية إلا جمهورها الحماسي، فالحماس هو الآفة التي تنخر كل عمل سياسي لو كنتم تعلمون.
اقرأ/ي أيضًا: