المعروف عن العراقيين أنهم شديدو الانغماس في الشأن السياسي. وقد تجد الأولوية القصوى في إدارة الأحاديث اليومية السائدة هي للجانب السياسي. الأماكن العامة عادة ما تكون افتتاحياتها بأحاديث السياسة والسياسيين. وقلما نعثر على فئة اجتماعية في العراق تتورط في مدائح السياسة بوصفها حقلًا مهمًا يرتبط بإدارة شؤون الدولة. وكأنه تقليد عراقي مميز أن تتكلم بصيغة معارضة وشديدة التحفظ على عالم السياسة. لكن، ويا للأسف، معظمنا، نحن المشغولين بهذا الحقل المهم، لا يفقه السياسة ومبادئها، كما لو أن الشعب العراقي "صُمّمَ" لكي يبقى صائمًا عن العمل السياسي الفعلي والمنتج.
لا زالت فئات ليست بالقليلة لا ترى من محاسن الديمقراطية سوى عدوى اجتماعية ينبغي التخلص منها
دائمًا ما ترتبط السياسة في ذاكرة العراقيين بالرذيلة والأثم والأعمال المشينة. فحين يتداول العراقيون أحاديث السياسة لا لكونها فضيلة أخلاقية أو فلسفة عملية وإنما لكونها على الأغلب، فعل رذيل ومذموم، وصاحبه شيطان رجيم. إلا إذا كان مستبدًا؛ فالأصالة للاستبداد وما دونه عرضيًا وهامشيًا. والجذر الأساس لهذه الظاهرة، على الأرجح، شيوع حالة الاستبداد السياسي الذي تؤيده وتبارك له البنية الاجتماعية ذات البناء الهرمي، وبحكم هذه العلاقات الاجتماعية التقليدية ينحو معظم العراقيين نحو الشخص لأنه ينسجم مع تفضيلاتهم الاجتماعية والسياسية. فماذا تنتظر من ثقافة تعاني من تركة استبداية ثقيلة لعدة عقود، ولم تتحرك الأنظمة السياسية المتعاقبة نحو البناء المؤسساتي. وعلى العكس من ذلك، قامت هذه الأنظمة بالتلقين المستمر على ضرورة الاستبداد وجدواه وفاعليته، لذلك لا نجد في حوارات العراقيين بعمومها حوارات عن فضائل المؤسسات العصرية بقدر ما نسمع قصصًا أثيرة عن فضائل المستبد وعطاياه التي لا تنتهي.
اقرأ/ي أيضًا: قانون العشائر: حماية اللصوص
لا زالت فئات ليست بالقليلة لا ترى من محاسن الديمقراطية سوى عدوى اجتماعية ينبغي التخلص منها والرجوع إلى أدبياتنا السياسية المعتادة العزيزة على قلوبنا؛ فماذا جنينا من الديمقراطية سوى السلب والنهب والطائفية والفساد السياسي والإداري وهلم جرا.
غير أن الممانعة الحقيقية غير المعلن عنها مباشرة تجاه الديمقراطية لا تعبر عن نفسها بهذه الطريقة الملفقة والتبريرية، بل هي تضمر الكثير مما لا يقال، وأبرزه أن الخطاب السائد منذ عقود هو خطاب "القائد الضرورة" والحنين إلى الأيام الخوالي يوم كان المستبد يوهب ما لا يملك. غير أن جمهور المستبد يرضى بالقليل حتى لو كانت عطايا رمزية. وأنت كما ترى في ثقافة لم تفطم من سياسة الاستبداد، ماذا تنتظر من أحاديثها السياسية غير تبديل صيغة الولاء للقائد الضرورة بطرق تعبيرية مختلفة.
على سبيل المثال وليس الحصر، ثمة أنماط ثلاثة للحوارات السياسية في المجتمع العراقي؛ حوارات عن مزايا المستبد ومحاسنه والحنين إليه، وحوارات عن ضرورة الولاء للقادة الطائفيين، وحوارات عن الحداثة السياسية كالديمقراطية، والحرية، والمواطنة، وهذه الأخيرة لا تجد لها جمهور غفير (وإن وجد هذا الجمهور فسوف ينشغل بالمناكفات الصبيانية) ولا توجد لها منصات إعلامية مرموقة سوى منصات مواقع التواصل الاجتماعي ذات الجمهور المتقلب والموسمي، على عكس النمط الأول والثاني، فهما يتمتعان بجمهور غفير وحرس أشداء ومنظومة ثقافية راسخة.
لكي نثبت الحجة التالية: إن جمهور الاستبداد لا زال حيًا يرزق، وأنه استبدل جلده بآليات مختلفة شكلًا إلا أنها متماثلة مضمونًا. ما علينا سوى مشاهدة هذا "العرس الانتخابي" وهو فعلًا عرس لكنه على طريقة الأعراس في المناطق الشعبية، المهم في الأمر، أن المتتبع لانتخابات تشرين سيعثر على تحضيرات سبقت هذا الكرنفال السعيد (وخصوصًا للجماعات العقائدية) وهي تحضيرات سبقتها أيضًا حوارات إيمانية الطابع لا تقيم وزنًا للبرامج الانتخابية بقدر ما تضع الطاعة المذهبية كأولوية قصوى. ولهذا الجمهور تصوراته الخاصة عن السياسة كما ذكرنا في المثال المتقدم، ولهذه التصورات حوارات سياسية تنسجم مع دوافعه الوجدانية وأولها تقديم الولاء على البرنامج السياسي والاقتصادي للمرشح.
المتتبع لانتخابات تشرين سيعثر على حوارات إيمانية الطابع لا تقيم وزنًا للبرامج الانتخابية
ولكي نثبت الحجة التالية أيضًا: أن جمهور الحداثة السياسية في أحسن حالاته هو جمهور صنعته مواقع التواصل الاجتماعي وأبرز ملتقياته الثقافية هي المقاهي. وهذه ليست سبة ولا عيبًا في هذا الجمهور وسط ثقافة تميل إلى التوحش الأيديولوجي وتحارب كل أشكال الحرية باتهامات شتى. ففي مجتمع تقليدي يغدو التنظيم السياسي من أبرز تحديات المرحلة (وهذا ما سنفرد له مقالة خاصة) هذه المرحلة التي سيبقى أبطالها إلى أجل غير مسمى، هما المذهب والعشيرة وما عداهما وافد وغريب. كان الأغريق يعقدون صداقات حميمة مع الحكمة، لذا يعبرون عن أنفسهم بـ"صديق الحكمة"، في حين تعثر في هذه المنطقة على منظومة هائلة من الأصدقاء، لكنهم أصدقاء الديكتاتور.
اقرأ/ي أيضًا: