يتحدث الأصوليون في قاعدةٍ تخص تفسير الأحكام قد أجمع عليها فقهاء المذاهب الأربعة ومن النادر أن يجمع الفقهاء على حكمٍ ما أو واقعةٍ ما، تسمى بقاعدة "الاستنتاج من باب أولى" كما تُسمى أيضًا طريقة القياس بأسلوب الأفضلية أو الأولوية، حيث يلجأ القاضي من خلالها إلى تطبيق الأحكام الواردة بشأن حالة يُوجد عليها نص على حالة أخرى لا يوجد عليها نص؛ لأنّ علة الحكم في الحالة الثانية تكون أقوى من العلة في الحالة الأولى.
الحصانة تُرفع عن عضو البرلمان في الجرائم الأقل خطورة دون موافقة المجلس وفق تفسير المحكمة الاتحادية
على سبيل المثال: في قوله تعالى "فلا تقل لهما أفًا". فالشارع لم يجد مفردة في اللغة العربية أخف وقعًا من فعل التأفف تعبيرًا عن النهي عما هو أشد منها، فمن باب أولى إنَّ أي فعلٍ يوازي التأفف أو يعلوه يكون فعلًا محظورًا؛ كون علّة الحكم أشدّ حضورًا وقوة في الحالة الثانية من العلّة في الحالة الأولى.
مؤخرًا، صُدمَ الناسُ، العامة منهم والمتخصصون بحكمٍ صدر عن محكمة الكرخ القاضي بالحبس لمدة ستةِ أشهر بحق نائبٍ في مجلس النواب العراقي، وهم على حق في استغرابهم هذا؛ فأين الحصانة القانونية التي منحها الدستور والقانون لعضو مجلس النواب؟، ألم ينص الدستور في المادة 63 على عدم جواز إلقاء القبض على النائب، إلا إذا كان متهمًا بجناية وبموافقة أعضاء مجلس النواب بالأغلبية المطلقة على رفع الحصانة عنه أو إذا ضبط متلبسًا بالجرم المشهود في جناية؟.
لقد جاءت بنفس المنطوق المادة 7 من قانون مجلس النواب وتشكيلاته رقم 13 لسنة 2018، والمادة 20 من النظام الداخلي لمجلس النواب رقم 1 لسنة 2022، إذ أن النص جاء واضحًا وصريحًا: "لا يجوز إلقاء القبض على النائب إلا إذا كان متهمًا بجناية.."، ولا يمكن تفسيره إلا بالصورة التالية: لا يجوز إلقاء القبض على النائب في كل أنواع الجرائم بإستثناء الجناية وبموافقة الأغلبية المطلقة لأعضاء المجلس في حال لم تكن الجريمة مشهودة ومن دون الحاجة إلى الموافقة إذا كانت مشهودة. إلا أن المحكمة الاتحادية العليا قد فسرت الأمر على العكس من ذلك تمامًا، إذ ذهبت في قرارها رقم 90 لسنة 2019 إلى أن "عدم ذكر المُشرع لجريمتي الجنح والمخالفات في النص الدستوري لا يعني أن أرتكاب هذه الجرائم من قبل النائب فعل مباح ولا سيما أن منها ما تشكل خطرًا على حياة الناس وأمنهم وسلامتهم إضافة إلى ما يتعلق بالاعتداء على الأموال العامة والخاصة". وهذا تفسير مستغرب، حيث لا ترفع الحصانة إلا بموافقة أعضاء مجلس النواب في الجنايات وترفع من دون موافقة في الجنح!.
أليس أولى أن يكون العكس، أي ألّا ترفع الحصانة في حال ارتكاب الجنح والمخالفات وترفع بالجنايات كون الجناية أشد خطورة وضراوة على المجتمع من الأنواع الأخرى؟، فالحصانة تُمنح للنائب في أشد أنواع الجرائم وتُسقط عنه في جرائم أقل خطورة، وهذا تفسير غير معقول ومخالف للقواعد الأصولية في التفسير. لذا أدعو المحكمة الاتحادية العليا إلى إعادة النظر بقرارها والعدول عنه بما ينسجم وغاية المشرع الدستوري.