19-يونيو-2019

عملت السلطات العربية على اغتيال العقلانية العربية والمساهمة بهجرانها وإبعاد النظر عنها (الفنان العراقي مؤيد محسن)

"وكان فرسان الساحة البارزون في هذا المجال هم أبناء الطبقات والأكثر التصاقًا بأشواط التقدم الجلية في ذلك العصر: جماعات التجار ومالكي الأراضي، المستنيرين اقتصاديًا.. والمديرين الاقتصاديين والاجتماعيين والطبقة الوسطى المتعلمة، وأصحاب المصانع والاقتصاديين".. إيريك هوبزباوم - عصر الثورات.

تنتشر في ثقافتنا العربية متاهات ملغومة بالسحر واللامعقول، إذ لم تستطع الحضارة الحديثة نزع السحر عنها تمامًا لأسباب سنأتي عليها لاحقًا. وظلت كحالة متجذّرة في الوجدان العربي يحرّكها الوفاء للذاكرة، وهذه الأخيرة حينما يستوطنها الانكسار تبحث عن أقرب نقاطها المرجعية لتنتصر لها وتحتمي بها كملاذٍ مقدس. والنقطة المرجعية الأقرب لوجدان العربي هو الشعر وليس العقلانية؛ فالسلطة المهيمنة: سلطة الفقيه، وشيخ القبيلة، والمستعمر "يناضل" حرسها القديم بالاغتيالات المستمرة للعقلانية للعربية. ليس بالضرورة أن يكون هذا الاغتيال على نحو مباشر، وإنما يكفي لهذه السلطات أن تغازل العقل الجمعي وهويته الأقرب إليه، فتكون بذلك قد ساهمت باغتيال العقلانية. بتعبير آخر: يمكن القول إن للذهن نقاط مرجعية أقرب لهويته التي اصطنعها بحكم عملية التزود المعرفي بين الذات والموضوع، بين الذهن والعالم الخارجي، وبحكم الألفة يمتزج الذهن ويستأنس بنقطته المرجعية الأقرب التي تشعره بالوجود. والهوية الشعرية هنا هي الأقرب والأكثر انسجامًا وألفًة للذهن العربي وتشعره بوجوده كذات فاعلة ومنتجة. على عكس العقلانية التي قد تبدو نقطة مرجعية بعيدة ولا تٌشعر هذا الذهن بأُلفته ووجوده!. إن الذاكرة العربية كانت سريعة الاستجابة للحداثة الشعرية، وكانت هذه الأخيرة هي الأسرع بالإنجاز مقارنة بالعقلانية والتنوير التي تعرّضت لنكسات كبيرة.

تبالغ "ثقافتنا" في الاحتفاء بالشاعر على حساب المفكّر، و الأخير متأخر درجات بالسلّم الرتبي مقارنة بالشاعر. ليست هذه إدانة للشعر، وإنما مقارنة بين الثقافة الشعرية والعقلية في بلادنا

ثمّة تمايزات عميقة للغاية في ثقافتنا؛ تفاضل بين العقلانية والنزوع الشعري الحاد، وهذا الأخير يشكّل رأس المال الرمزي للفرد العربي- والنقطة المرجعية الأقرب كما قلنا- إلى حد كبير، فعلى سبيل المثال، يمكن لشاعر أن يدخل في عداد "المقدس" في بيئتنا الثقافية وأن يشار إليه بالبنان. حتى لو كان مبالغًا في ما يقول، المهم في الأمر إنه مهندس لغوي "فذ" استطاع أن يشيّد معماره البلاغي لسحر المتلقي، بينما لا يستطيع المفكر أن يحاكي هذا الكرنفال الشعري الواسع. ليس لقرب الشعر من الوجدان والدفق الجمالي الذي يضفيه في نفوس المتلقين وبعده الانفعالي الذي يسمو بالروح، وإنما الأمر أبعد من ذلك بكثير؛ فالأمر يتعلّق بسلعة رائجة وأخرى بائرة ويتيمة، لا تجد لها سوقًا نشطة كما قلنا.

اقرأ/ي أيضًا: السّرابُ هناك وهنا أدلاؤه

يمكن القول إن ثقافتنا تبالغ في الاحتفاء بالشاعر على حساب المفكر، وهذا الأخير متأخر درجات بالسلّم الرتبي مقارنة بالشاعر. بالطبع هذه ليست إدانة للشعر، وإنما مقارنة بين الثقافة الشعرية والعقلية في بلادنا.

وهذه المقارنة ليست بين نقيضين كالمقارنة بين الوجود والعدم، ولا بين ضدين كالمقارنة بين السواد والبياض، وإنما محاولة فهم هذا "الوفاء" للشعر، وشيوع ظاهرة على حساب أخرى، وأسباب "اغتيال" العقلانية في بلادنا، والتنكّر بشكل عام لها. و الأمر، كما يبدو، ليس غريبًا، إذ استطاع الشعر أن يجد له حاضنته الثقافية ابتداءً من عصر الجاهلية حتى يومنا هذا، وخصوصًا أن الشعر يتمتع بحاضنة جماهيرية واسعة في العراق، وكما يقول هادي العلوي، ما مضمونه، إن العراق يتمتع بثقافة شعرية بينما تنحسر فيه الثقافة العقلية. فعلى الرغم من تضائل المد الشعري مقارنة بالسابق، غير أنه في نهاية المطاف "ديوان العرب". لكن يبقى تاريخنا الشعري سببًا واحدًا من عدة أسباب جعلت العقلانية في خانة الاتهام والمحاكمة، بل يتعلق الأمر بالبنية الثقافية والسياسة والاقتصادية، التي تستمد قوّتها من الغطاء السياسي للسلطات الثلاث التي ذكرناها.

سوق الأفكار

مثلما للسلع المادية أسواقها ومستهلكوها، فللأفكار أسواق وزبائن تحدد قيمة البضاعة المتداولة. لو كان الأمر محصورًا في العقل الجمعي فحسب لاعتذرنا له، لأن العقل الجمعي يميل إلى الغرائزية والحس المشترك فيصعب تلمّس منه أفكارًا عقلانية. لكن حتى بيئتنا الأكاديمية لا تمنح السعر المناسب للبضاعة العقلية!. فعلى سبيل المثال يقول أحد الكتّاب، حتى لو كان أحدنا أرسطو فلا تجد أفكاره رواجًا في بيئة طاردة للفلسفة. فمن هذه الناحية سيبقى أرسطو العربي يتأمل نفسه وأحجياته العقلانية في مكتبته الخاصة. وربما يجمعها في كتاب لا يحقق رواجًا مقارنةً بمجموعة شعرية. كل شيء بلا حاضنة اجتماعية سيبقى مهددًا وسرعان ما يزول ويعمّه النسيان، وهذا الأمر ينطبق، كذلك، على النخب الفكرية التي تفتقر لهذه الحاضنة. وبالنتيجة لكل ثقافة حواضنها الخاصة ورأسمالها الرمزي الذي يحقق رواجًا لسلعها، وحصتنا الرمزية من العقلانية ضئيلة إذا ما قورنت بالحصة الأكبر التي تلتهمها الشعرية.

إن ضمور العقلانية في بيئتنا العربية لا يخضع لـ"حتمية" ثقافية أو بيولوجية!، بمعنى أن البنية النفسية والعقلية والاجتماعية للفرد العربي ساهمت في صياغتها وتركيبتها ظروف سياسية واقتصادية وتاريخية. ابتداء من تراجع الحضارة العربية الإسلامية وما رافقها من هيمنة المد الأصولي يوم أضحت السلطة حنبلية تكفيرية، والاحتلال والتدمير الذي لحق بعاصمة العلم آنذاك بغداد فضلًا عن الحروب الصليبية، ومرورًا بالحرب العالمية الأولى وتقسيم المنطقة وتحويلها إلى دويلات من قبل المستعمر، والمد الاستيطاني الذي كانت خاتمته احتلال فلسطين. بعبارة أخرى، أن ما نتكلم عنه قضية تاريخية تخضع لمنطق التبدل والصيرورة، وما عدا ذلك فهو كلام فوق حركة التاريخ، وأعني به تلك الأحكام القطعية تجاه العرب وتاريخهم، التي هي لجلد الذات ورثائها أقرب منها للتحليل الموضوعي، فتقع في أحكام مسبقة وجاهزة حينما تتناول مواضيع حساسة تتصل بالشأن العربي.

إذا توفرت البيئة الملائمة والمؤسسات الرصينة ستختفي الأطواق العازلة للعقلانية، والدليل أن العرب يبدعون في الدول الغربية ويحتلون مواقع علمية رصينة هناك

إذا توفرت البيئة الملائمة والمؤسسات الرصينة ستختفي الأطواق العازلة للعقلانية، والدليل أن العرب يبدعون في الدول الغربية ويحتلون مواقع علمية رصينة هناك لأنهم وجدوا المؤسسات الهائلة التي تحتضنهم. إن العقلانية حاجة تقررها الظروف؛ المكوّن الاقتصادي والسياسي والاجتماعي يشكّل البنية العامة لبزوغ العقلانية، وقد تبزغ العقلانية وتدشّن عصرها الخاص قبل اكتمال المكوّنات الأخرى، غير أنها تبقى متأرجحة وخاملة وتتسم بالبرود، فيصعب انتشارها وتوسعها مالم تتضافر معها باقي المكونات، وهذه الأخيرة تترجمها المؤسسة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية. بعبارة أوضح: عدالة سياسية تضمن حرية التفكير والتعبير، وعدالة اقتصادية تضمن حق العيش الكريم للمواطنين. بهذه الجذور الراسخة تغدو البيئة السياسية خصبة وحاضنة ومتنفسًا للعقلانية، وبخلافها سيحل القمع وتنتشر اليوتيوبيا.

اقرأ/ي أيضًا: هل كانت المعلقات "سورًا" دينية لآلهة العرب؟

أكثر من ذلك، إن العقلانية والتنوير تستند إلى مقدمات معقّدة للغاية، وهذا ما أشار إليه المؤرخ الفذ إيريك هوبزباوم في كتابة عصر الثورات، حيث يقول إن "الإيمان الذي تشرّبه وتشبع به القرن الثامن عشر بتقدم المعرفة الإنسانية، وبالمنهج العقلاني، وبالثورة، والمدنية، والسيطرة على الطبيعة، أي "حركة التنوير"، إنما كان يستمد قوته أساسًا من التقدم الواضح في مجالات الإنتاج، والتجارة، والعقلانية الاقتصادية، والعلمية التي كان من المعتقد أنها ترتبط بكليهما على نحو حتمي". يضعنا هذا المؤرخ اللامع على مقدمة أساسية مفادها: لا تتنفس العقلانية ما لم تتقدم معها، بالتوازي، جميع القوى السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تقود عجلة التقدم. فالعقلانية والتنوير لا تتجذر في الكتب والقراءات، وإنما بثورة شاملة تطال كل البنى الاجتماعية. فمن هذه الناحية ستبقى هذه الثقافة وفية لذاكرتها التي يزدحم فيها الشعري بكثافة ويتسيد على غيره. مرّة أخرى أكرّر، إن الشعر ليس "رذيلة" ثقافية، بل هو بعد مهم لترجمة التجربة الروحية لذات الشاعر وفتح إمكانات جديدة للحياة من خلال الانفعال الذي تخلقه شاعرية اللحظة. فاختيار الشعر هنا كونه يمثل الذاكرة العميقة والمتأصلة في الوجدان العربي، فيما ظلّت العقلانية في سجنها المظلم في ظل هيمنة سلطة الفقيه وشيخ القبيلة والمستعمر الذي لا يهمه انتشار الشعر والشعراء بقدر ما ترعبه سلطة العقلانية وقوتها، فهذه القوة تكسر ثنائية السيد والعبد، وهذا ما لا يرتضيه السيد المهيمن.

 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

جورج طرابيشي.. حفريات الفكر العربي

تاريخية الوعي الإسلامي ومساراته