21-ديسمبر-2021

الإسلاميون يمارسون الإمبريالية على شعوبهم (Getty)

إن فكرة العدو الخارجي كانت وما زالت من تقنيات السلطة الفعّالة للهيمنة على الداخل، ففكرة وجود عدو خارجي مستمر التهديد على وجود الدولة هي فكرة مثالية جاهزة للنظر باحتقار إلى قضايا الشعوب الداخلية، هذه النتيجة هي غاية أي سلطة ديكتاتورية. تسخيف قضايا الشعوب يعني أن الديكتاتورية مستقرة، ويعتمد مدى قوة وديمومة هذا الاستقرار على مدى وقوة التسخيف الذي تواجه به هذه السلطات قضايا شعوبها بشكل طردي، فهذه تقنية خطابية أثبتت نجاحها مثلما تقول لنا التجربة التاريخية، حتى أننا وصلنا في مراحل تاريخية ما، إلى الحاجة لحروب خارجية ساخنة لهذه الأسباب قبل أن نصل في الوقت الحاضر إلى تخادم الوجود بين الأطراف المستحكمة الداخلية والخارجية، فصار تبرير سلوك الطرف الداخلي يعتمد على وجود الطرف الخارجي والعكس أيضًا، وهكذا كانت وما زالت هذه المعادلات الدائرية تستحكم على قضايا الشعوب بشكل مباشر دون أن تمثله، هذه المعادلات الجوفاء ليس لها مكان ولا تشكّل معنى ضمن الصراع الاجتماعي، وهنا لا أقصد بالطبع الإمبريالية كمفهوم سياسي يحركه بشكل جوهري عامل الاقتصاد إلا أنني أقصد هذه الصراعات الدونكيشوتية التي تمارسها السلطات خارج هواجس شعوبها. هذه صراعات ديكة هي من يقولون عنها "إننا نصارع الإمبريالية"، فهل هنالك من معنى؟!

من مصلحة الشعوب أن تواجه أنظمة واضحة ومؤسساتية على أن تواجه شبكات ميليشياوية طائفية تمارس الغنيمة

لم تخرج الإمبريالية كسياسات عالمية من جوهرها الاقتصادي الرأسمالي، هذا هو المفهوم الجوهري للإمبريالية، نمط الاقتصاد الرأسمالي الذي تقوده أمريكا ودول الغرب، والتي تحاول فرضه على معسكر عالمي "اشتراكي" آخر هو ضدّ نوعي لهذا النمط، هكذا إذًا تمخض هذا الفهم للصراع الدولي الذي جوهره اقتصادي كما أسلفنا، ومن خلال هذا الجوهر "الذي تم تناسيه الآن" صنعت الخطابات والشعارات التي تبرّر مقاومة هذا المحور والاصطفاف لمحور آخر.

اقرأ/ي أيضًا: عن الاستعمار والاستقلال.. محاولة لفكّ الالتباس

 نحن إذًا نتحدث عن شرط موضوعي عالمي ووطني في آن واحد محرّكه هو نمط الاقتصاد الذي تتبناه هذه الدول وطريقة توزيع الثروة التي ترغب بها أمام قوة عالمية أخرى تحاول فرض نمطها الاقتصادي وفهمها لتوزيع الثروة ورؤيتها بشكل عام للنشاط الاقتصادي، حتى داخل هذه الدول الوطنية. هذا الشرط كان يعرف سابقًا بـ"الحرب الباردة"، كان هذا الشرط وما زال هو الهاجس الذي تجتمع عليه الشعوب بشكل واقعي رغم سياسات التطييف والهوية التي تتبعها الدول "الإمبريالية"، ورغم هذا الفضاء الجامع لتطلع هذه الشعوب مارست السلطات خطابًا شعبويًا عن عدو يحاول استباحة اقتصادها وسيادتها، ولكن هذه الخطاب لم تكن لتشكل سياسة عالمية استراتيجية بقدر ما كانت أداة ومبرراً للهيمنة على الشعوب وقمع أي حراك أو نشاط ينشد الحرية والديمقراطية، تحت ذريعة الإمبريالية العالمية التي كان القادة الشعبويون يواجهونها كانت الشعوب تذبح وكان القادة "القوميون" يطبعون علاقات اقتصادية إمبريالية، صدام حسين وحافظ الأسد وغيرهم هم نفسهم أخذوا يتبنون نمط الاقتصاد الرأسمالي "الذي هو جوهر الإمبريالية"، فبعد انهيار الاتحاد السوفيتي أخذ حزب البعث في العراق وسوريا بسياسات رأسمالية واضحة، وكانت نتيجتها بعد استلام بشار الأسد الحكم في سوريا أن وصلت نسبة الخصخصة إلى 70 % من الاقتصاد الوطني، وتحت هذه الذريعة نفسها ذبحت الشعوب واستحكم على مصيرها. 

لا تختلف تجربة الإسلام السياسي في مواجهة الإمبريالية العالمية من حليفها الشعبوي التلقيدي، سوى أنها أشد غنائمية وبدائية في رؤيتها للاقتصاد الوطني، وفي هيمنتها على المنافع العامة. في العراق مثلًا تشير التقارير الصحفية الاستقصائية ويؤيدها وضوح نشاط هذه الجماعات اقتصاديًا بأن هذه الفصائل تهيمن على منافع عامة مثل المعابر الحدودية والموانئ والمطارات، إضافة إلى الاستثمارات الضخمة التي تصنعها هذه الجماعات بالقوة وهيمنتها على سوق القطاع الخاص، إضافة إلى نشاط غسيل الأموال الكارثي، أليست هذه كلها نشاطات اقتصادية إمبريالية كمفهوم وفعل واقعي؟

الواقع يقول إنكم جميعًا تمارسون هذه الإمبريالية على شعوبكم، بل أنتم الحلفاء الاستراتيجيون للدول الإمبريالية التي تدعون مواجهتها. اقتصاد هذه الدول يحتفي بتجربتكم الإمبريالية المتماهية تمامًا مع نشاطه، بل نشاطكم بالقياس إلى إمبرياليات الدول الكبرى هو الاسوأ لنا، لأنه لا ينزع حتى إلى تنظيم نفسه بشكل قانوني ومؤسساتي واضح مثل التجارب الرأسمالية المعروفة، بل أنه ينزع إلى الشكل الميليشياوي الديني السياسي، ومن مصلحة الشعوب أن تواجه أنظمة واضحة ومؤسساتية على أن تواجه شبكات ميليشياوية طائفية تمارس الغنيمة. يقول ماركس إن الرأسمالية الحديثة منتجة بالصراع الاجتماعي لأنك تواجه عدوًا حداثيًا يؤمن بالمؤسسات الحديثة، وهذا أسهل طبعًا من مواجهة قوى تؤمن بالغنيمة مثل الأنموذج الإمبريالي الميليشياوي الغنائمي للإسلام السياسي. 

 

 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

ماضي الاستعمار وحاضره: تعدد أدوار ووحدة هدف (1ـ2)

ماضي الاستعمار وحاضره: تعدد أدوار ووحدة هدف (2ـ2)