31-مارس-2020

نظام الصين ليس ديمقراطيًا ونحن العرب لا نتمنى إعادة أنتاج أنظمة سلطوية (فيسبوك)

الصينيون أمة عظيمة ، يعجز الأجانب عن ممارسة القمع المستمر عليهم . إنهم راغبون عن التكيّف مع رذائلنا لاكتساب القوة العسكرية؛ إلا أنهم راغبون في التكيف مع فضائلنا بغيةَ التقدم في الحكمة.. برتراند راسل- مشكلة الصين- نقلا عن محمود منقذ الهاشمي.

منذ ثمانينيات القرن الفائت والعالم الغربي يراقب صعود الصين، وقد اطلعت على مجموعة دراسات، لأكاديميين أمريكان، في كتاب حمل عنوان "صعود الصين"، كان الكتاب مكرسًا بعمومه لمستقبل الصين. ومن اللافت في الأمر أن الكثير من هذه الدراسات قد تنبأت حول أهم المنجزات الصينية المستقبلية فجاءت مطابقة تمامًا، ومنها أن الصين ستصنع حاملة طائرات مقاربة لحاملة الطائرات الأمريكية، وهذا ما حدث بالضبط. تعكس هذه الدراسات الاهتمام المتزايد والنظرة القلقة في مراكز القرار الغربي حول صعود التنين الصيني مرة أخرى؛ فالصينيون لا ينسون "الإذلال القومي" الذي تعرضوا له، بل هم يعتقدون أن الثورة الصناعية التي تحدث في الصين، مثلًا، ليست محض محاكاة من الصناعة الغربية، وإن بدت كذلك، بل هي استعادة للدور الحضاري الصيني الكبير، يوم كانت الصين تنظر لمن هم خارج السور الصيني عبارة عن "برابرة"، ويوم كان الميزان التجاري يسجل تفوقه لصالح بكين.

نظام الصين ليس ديمقراطيًا، ونحن العرب، لا نتمنى إعادة أنتاج أنظمة سلطوية، فلدينا ما يكفي

لم تستطع بريطانيا العظمى من تركيعهم وقلب الميزان التجاري لصالحها إلّا بحرب الأفيون المرعبة. كل هذا وغيره لم تضعه الصين في خانة النسيان، وإنما كان محفزًا لحث الخطى لاستعادة دورها الحضاري في العالم. هناك ثمّة تشكيكات حول المستقبل المجهول لقصة النجاح الصيني؛ ذلك أن الصين، بحسب تعبير بعض الخبراء، لم تسهم في تشييد الحداثة، ولم يكن لها دور ريادي في المشاركة الفعلية في الثورة الصناعية والاقتصادية والسياسية والفلسفية ذات المنشأ الغربي. لذا من المتوقع أن تسفر المحاولات الحثيثة لصعود الصين إلى تراجع حضاري. غير أن الصين لا تتفاعل كثيرًا مع هذه الاستشرافات، وتفضل العمل بصمت لكسب الرهان حول أهمية النموذج المستقبلي الذي ستقدمه للعالم. مضافًا إلى أن الحضارات تتكامل فيما بينها، ولا وجود لنقطة مرجعية لحضارة "أم" لكي نضفي عليها طقوس المديح والثناء. فالعالم فيما مضى كان "مذبحة" للدول الاستعمارية المتطاحنة على النفوذ والثروة، وتم تغييب قارات بأكلمها ونهب ثرواتها، إلى أن أسفرت، في نهاية المطاف، الحضارة الغربية بنموذجها الضخم والمثير للإعجاب.

اقرأ/ي أيضًا: إسرائيل والمهيمن الدولي.. إضاءة تاريخية

على أي حال، وبصرف النظر عن هذه "التوقعات"، فالصين تمتلك بنية تحتية حديثة، مقارنة بجميع البنى التحتية في العالم، واقتصاد يعد الأقوى وقادر على المنافسة بشراسة. شيء فشيء تغدو الصين النقطة المرجعية لقصة النجاح التقني المتطور بإطراد. الصين كقوة صاعدة ونموذج مقنع قادرة على تخطي أكبر العقبات، مثلما تخبرنا الوقائع. بعض القدرات الصينية المدهشة تقترب من المعجزة: رفعت الصين الملايين من خط الفقر، وهم الآن 900 مليون عامل صيني مسجل في المصانع الصينية. تكدس مئات المليارات ومئات الأطنان من الذهب كخزين نقدي، وأثبتت للعالم أن الكثافة البشرية عامل قوة إذا تم استثماراها بشكل صحيح. عملت على استثمار أعظم ما موجود في الحضارة الغربية، وترسل مئات الشباب لخيرة الجامعات هناك، تمتلك مئات الباحثين والعلماء، تستثمر مليارات الدولارات للتكنولوجيا المتقدمة. 

تبدو مراكز القرار "قلقة" حول النظام السياسي الصيني، ذلك إن الحزب الشيوعي يطوّر نظرية سلطوية مخيفة بحسب تعبير مايك بومبيو، إذ يندرج النظام الصيني في سياق الأنظمة المستبدة. وكذلك يبدو الغرب "قلقًا" على غياب الحريات، وانتهاكات حقوق الإنسان في الصين وإخضاع المواطنين هناك لرقابة دقيقة. والحق أن نظام الصين ليس ديمقراطيًا، ونحن العرب، لا نتمنى إعادة أنتاج أنظمة سلطوية، فلدينا ما يكفي. إلا أن قلق الغرب يتعدى طبيعة النظام، فهو صديق لهذه الأنظمة العربية المستبدة. فما يؤرق الأنظمة الغربية هو صعود التنين الصيني رغم استبداد نظامه السياسي؛ إذ لا ملازمة -كما يبدو- بين التنمية الاقتصادية والديمقراطية. القوى الغربية تمارس إرهابها في السياسية الخارجية، بينما هي مثال جيد في سياستها الداخلية، أما الصين فبالعكس تمامًا؛ قمع للحريات والبطش بالمعارضين. ثقافتان مختلفتان: الأولى تنبع من فلسفتها السياسية القائمة على الديمقراطية والليبرالية وحقوق الإنسان، بينما تستولي على الثانية فكرة "الراعي" أو "الاستبداد الشرقي" بتعبير ماركس.

أيًا ما يكن الأمر، فالصين قادمة وبقوة، وستغدو أحد مكونات بنية النظام العالمي في المستقبل. فلا يوجد لدينا أي دليل عن السلوك السياسي للصين مستقبلًا وسلوكها الإمبراطوري تجاه الآخرين. لكن قد تكون نقطة مهمة في ميزان القوى العالمية، وهذا ما ينفعنا تحديدًا، وليس الانتصار للنموذج الصيني بدوافع أيديولوجية!

عمومًا، فعلى الرغم من خلو التاريخ الصيني من الاستعمار وتحطيم القوى العالمية، ولم يدون لها التاريخ سجلًا حافلًا بالنهب والسلب، إلا أن راهن العالم اليوم ليس كالأمس، فتحديات الحاضر لا تشبه الماضي. فضلًا عن ذلك كله لا ضمانات يمكن أن نطمئن لها من أن الصين لا تتحول إلى قوة إمبريالية. فالتاريخ يقول، إن المهيمن حينما يمتلك أسباب القوة يفرض شروطه. إذ استطاعت الصين اختراق الاحتكارات النادرة للحضارة الغربية، وهي اليوم تتربع على عرش القوى الأربع: القوة السياسية، الاقتصادية، العسكرية، والقوة الثقافية. هذه هي أدوات الهيمنة!

ما نتمناه نحن العرب هو تعدد ميزان القوى في العالم للعب على أكثر من محور

فأفضل ما نتمناه نحن العرب تعدد ميزان القوى العالمية، لنرجع كما السابق: وهو اللعب على أكثر من محور، ومحاولة الاهتمام بالتنمية الاقتصادية الغائبة في منطقتنا، والخروج من بؤرة الهلاك المستمرة. هل تستطيع الصين أن تلعب هذا الدور مستقبلًا لمشرقنا العربي، ويعاد رسم الخرائط من جديد، أم سننتظر حقبة "امبريالية" جديدة على يد التنين الصيني هذه المرة؟

 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

عالم يحكمه الأقوياء!

نادي القمار الكبير