في تسارع مفاجئ، غيّرت بعض القوى السياسية مواقفها من استهداف الأمريكيين وغيرهم في العراق مع تأكيد على رفض استهداف البعثات الدبلوماسية والثقافية ناهيك عن القوى التي ترفض مرارًا العمليات العسكرية كحلٍ لإخراج القوات الأجنبية من البلاد، والتي تفضّل الحل الدبلوماسي وتطبيق قرار مجلس النواب بإخراج تلك القوات.
وصفت هيئة الحشد الشعبي محاولات الأطراف الداخلية والخارجية لزج اسم الحشد بذلك بأنها "محاولات لخلط الاوراق وتضليل الرأي العام"
في 15 أيلول/سبتمبر الجاري، تعرضت مركبات دبلوماسية تابعة للسفارة البريطانية لدى العراق إلى استهداف بعبوة ناسفة بالقرب من جامع أم الطبول على الطريق المؤدي إلى المنطقة الخضراء، لكنه لم يوقع إصابات بحسب بيان السفارة.
اقرأ/ي أيضًا: الصدر يطالب بتشكيل لجنة عسكرية للتحقيق باستهداف السفارات والكاظمي يرد
بعد يومين من استهداف الموكب البريطاني، انفجرت عبوة ناسفة في ساعة متأخرة من الليل قرب معهد اللغات الأمريكي في حي الغدير بمحافظة النجف لكنها لم تخلّف إلا أضرارًا مادية في موقع الانفجار بحسب خلية الإعلام الأمنية.
كان التفجير الذي استهدف معهد النجف ثاني الأحداث التي ربما تكون سببًا في الانتقادات اللاذعة الموجهة لفصائل مسلحة من قبل قوى سياسية لم تُعرف بعدائها الآيديولوجي للفصائل أو منهج المقاومة، فيما يرى آخرون أسبابًا أخرى للتراجع.
رفض محلي وإيراني
أدانت بعض الشخصيات السياسية استهداف الموكب البريطاني، حيث اعتبر رئيس تيار الحكمة عمار الحكيم أن الاستهداف "ينطوي على مخاطر كثير وقد يدفع العالم إلى تقليص حضورها وتمثيلها في العراق"، مطالبًا خلال إدانته الحكومة بحماية البعثات الدبلوماسية وعدم السماح بالإضرار بسمعة البلاد.
وعلى الفور، "نددت واستنكرت" وزارة الخارجية الإيرانية استهداف البعثات الدبلوماسية في بغداد داعية بلسان المتحدث باسمها سعيد زادة، الحكومة العراقية إلى تعزيز وتوفير الأمن لمقرات البعثات الدبلوماسية الأجنبية في العراق.
في اليوم التالي، قال زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر إنه لا يجد من المصلحة إدخال العراق في أتون العنف واستهداف المقرات الثقافية والدبلوماسية"، بل أن "غاية الأمر" بحسب الصدر "اتباع السبل السياسية والبرلمانية لإنهاء الاحتلال ومنع تدخلاته"، مضيفًا: "من يفعل ذلك منكم فليعلم أنه يعرض العراق وشعبه للخطر المحدق".
مواقف جديدة
عصر يوم 18 أيلول/سبتمبر، نشر حساب "أبو علي العسكري" ، الذي يُنقل عنه كمتحدث باسم كتائب حزب الله، تغريدة على تويتر تؤكد ضرورة "إبقاء المدن المقدسة بعيدة عن أعمال العنف ولا يجوز استعمال القوة المفرطة لتحقيق الأهداف، كما أن استهداف البعثات الدبلوماسية لا يشكل أي مصلحة ما دامت لم تشكل خطرًا داهمًا يتفق عليه العقلاء".
ولم يَفوت العسكري أن يذكّر بوجود قوات عسكرية كبيرة في محيط السفارة الأمريكية ببغداد معتبرًا إياها تهديدًا بالغًا لأمن المدنيين في المناطق القريبة وخرقًا لسيادة البلاد.
كما اعتبر القيادي في الحشد الشعبي جواد الطليباوي، في ذات اليوم، استهداف البعثات الدبلوماسية أمرًا غير مقبول مميزًا البعثات عن الاحتلال، وقال إن "أي عمل عسكري ضد أمريكا سيكون بلا غطاء قانوني وشرعي إذا استجابت الأخيرة لقرار مجلس النواب بخروجها من أرض العراق".
العصائب تتبرأ !
بعد التفجيرين الذين استهدفا المعهد الأمريكي والموكب البريطاني مع تواصل استهداف سفارة واشنطن ومطار بغداد الدولي، أدان عضو المكتب السياسي لحركة عصائب أهل الحق محمود الربيعي عمليات القصف التي تحدث بالوقت الحالي واعتبرها "مرفوضة وغير صحيحة"، وأن خروج القوات الأجنبية "لا يرتبط بعمليات القصف".
يقول الربيعي في تصريح تلفزيوني تابعه "ألترا عراق" إن "صناعة الاضطراب بضرب البعثات الدبلوماسية في المنطقة الخضراء ليس بفعل مقاومة" حيث أن "المقاوم يجب أن يعلن عن نفسه ويحدد أهدافه"، كاشفًا عن قناعة حركة العصائب بأن من يقوم بهذه الأعمال إنما هم "جهات تريد إبقاء القوات الأجنبية في العراق".
أما النائب عن كتلة صادقون، الجناح السياسي لحركة العصائب، عواد العوادي، وصف ما يحدث الآن من قصف بصواريخ الكاتيوشا على السفارة الأمريكية وغيرها بأنه عمل أطفال "شغل زعاطيط"، مؤكدًا أن الحركة لم تبدأ بعد بالعمل العسكري وهو إذا بدأ لن يكون بواسطة الكاتيوشا.
الجدير بالذكر أن الأمين العام لحركة عصائب أهل الحق قيس الخزعلي وفي خطاب تلفزيوني وجهه لرئيس مجلس الوزراء نهاية حزيران/يونيو الماضي دعا الكاظمي إلى ألّا يتدخل في مواضيع أكبر من حجم حكومته ذات المهام المحددة.
قال الخزعلي إن معالجة استهداف القوات الأمريكية من قبل فصائل المقاومة لم يحصل في تاريخ الحكومات، مطالبًا الكاظمي بأن يغض النظر "يغلّس" على العمليات كما فعلت الحكومات التي سبقته.
إصرار غير مسبوق
لم تتوقف التصريحات عند إدانة استهداف البعثات الدبلوماسية لتبدو ردة فعل فحسب، خاصة من زعيم التيار الصدري الذي عاد وغرّد في 23 أيلول/سبتمبر موجهًا حديثه للحشد الشعبي، إذ أكد أن "ما تقوم به بعض الفصائل المنتمية لهذا العنوان الكبير فيه إضعاف للعراق وشعبه ودولته"، داعيًا إياهم "للتصرف بالحكمة والحنكة".
توسع الصدر أكثر بالتطرق إلى "ما يحدث من قصف واغتيالات من بعض المنتمين لكم وإن كنتم غير راضين عنه.. إلا أن هذا لا يكفي"، مشددًا على "السعي بالحكمة والتروي إلى إنهاء جعل العراق ساحة لصراع الآخرين"، كما طالب "المجاهدين" بالنأي بالنفس عن "السياسة المبتذلة حفظًا لسمعتهم وتاريخهم".
يقول رئيس مركز التفكير السياسي إن تصريحات ترامب حول جلوس إيران على طاولة المفاوضات بعد الانتخابات يؤشر "بما لا يقبل الشك" على صفقة قادمة بين أمريكا وإيران
في اليوم التالي، أصدرت هيئة الحشد الشعبي بيانًا أكدت فيه أن "الحشد قوة عسكرية عراقية رسمية ملتزمة بكافة الأوامر التي تصدر عن القائد العام للقوات المسلحة" وأنه "ليس معنيًا بأي صراعات سياسية أو أحداث داخلية في البلد، وليس مسؤولًا عن جهات تستخدم اسمه لأغراض التشويه والتسقيط والقيام بعمليات مشبوهة ونشاط عسكري غير قانوني يستهدف مصالح أجنبية أو مدنية وطنية"، معلنة براءتها مجددًا من تلك الجهات.
اقرأ/ي أيضًا: "براءة كاملة".. الحشد الشعبي يعلن موقفه من هجمات الفصائل في العراق
وصفت هيئة الحشد الشعبي محاولات الأطراف الداخلية والخارجية لزج اسم الحشد بذلك بأنها "محاولات لخلط الأوراق وتضليل الرأي العام".
في السياق الزمني، تسربت وثائق صادرة من رئيس هيئة الحشد فالح الفياض تُظهر أمرًا بإعفاء القياديين حامد الجزائري ووعد القدو من منصب آمر لواء 18 وآمر لواء 30 على التوالي، لكنها موقعة بتأريخ 26 آب/أغسطس المنصرم.
وبعد بيان الحشد، نقل حساب صالح محمد العراقي المقرب من الصدر عنه دعوته إلى كشف ومحاسبة الميليشيات الوقحة وغير المنضبطة بعد أن تبرأت جميع الفصائل وبالتعاون مع الأجهزة الأمنية.
عاد الصدر للتغريد مجددًا في 25 أيلول/سبتمبر، حيث طالب بتشكيل لجنة أمنية وعسكرية وبرلمانية للتحقيق في الخروق الأمنية التي تتعرض لها البعثات الدبلوماسية والمقرات الرسمية للدولة على أن تعلن نتائج التحقيق للرأي العام وضمن سقف زمني محدد، مستدركًا بأن "عدم تحقق ذلك يجعل الحكومة مقصرة في عملها لاستعادة الهيبة وفرض الأمن".
بعد دقائق، وصمت طويل نسبيًا عن الموضوع، قال رئيس مجلس الوزراء مصطفى الكاظمي إنه يدعم مقترحات الصدر بتشكيل اللجنة مؤكدًا أن "يد القانون فوق يد الخارجين عليه مهما ظن البعض عكس ذلك وأن تحالف الفساد والسلاح المنفلت لا مكان له في العراق".
التراجع: تهدئة قبل اتفاق؟
أثارت هذه "الضجة" العديد من التساؤلات الموازية من قبل الشارع ومراقبين حول أسباب التحوّل أو الاهتمام المتزايد بعمليات القصف التي لم تتوقف منذ عام تقريبًا، الأمر الذي وصفه السياسي عزت الشابندر بـ"هرولة القادة للاتهام والإدانة والبراءة" من تهديد الهيئات الدبلوماسية.
يعتقد الكاتب والصحفي سرمد الطائي أن "حركة تشرين استطاعت تغيير قواعد العمل السياسي في العراق بعد أن كان الأمريكيون والإيرانيون يتصارعون على شاطئ الفرات وسط حيرة رؤساء الوزراء السابقين بحل هذا الصراع".
تتناقل وسائل إعلام أنباءً عن تهديد أوصله وزير الخارجية الأمريكي لبرهم صالح بإغلاق سفارة واشنطن في بغداد ومعالجة الأهداف في حال لم تتوقف الهجمات على البعثات الدبلوماسية
يقول الطائي في حديث لـ"ألترا عراق"، إن "الصراع الآن لم يعد بتلك القواعد، فأمريكا وإيران يدركان أن تشرين لم تكن مجرد تظاهرات وبالتالي ستتكيف أمريكا مع تحولات تشرين وكذلك ستفعل إيران وتغيّر من قواعد عملها في العراق".
اقرأ/ي أيضًا: واشنطن تبحث عن إجراءات قضائية ضد مهاجمي السفارة الأمريكية في بغداد
لم يعد العراق دولة فاشلة بل مسرح تحولات ونموذج متميز في الشرق الأوسط بنظر جميع بلدان المنطقة، مع إدراك إيران لذلك، وأن لا خيار أمامها سوى أن تخضع لقواعد تشرين، على حد تعبير الطائي.
من جانب ثانٍ، فأن تصريحات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب حول جلوس إيران على طاولة المفاوضات بعد الانتخابات يؤشر "بما لا يقبل الشك" على صفقة قادمة بين أمريكا وإيران بحسب رئيس مركز التفكير السياسي إحسان الشمري، الذي يشير إلى ارتباط عمليات القصف "بطبيعة المفاوضات التي كانت تدور بين واشنطن وطهران بشكل غير مباشر من أجل اتفاق على صيغة للتهدئة ثم الذهاب نحو عقد اتفاقية جديدة بين إيران ودول 5+1".
يقول الشمري في حديث لـ"ألترا عراق" إن "الفصائل العراقية وأجنحتها السياسية أدركت حتمًا طبيعة التحولات بعد التصعيد الأخير أو التلويح الأمريكي بقضية الاستهدافات وتصريح ترامب عن رد غير متوقع، بالإضافة إلى استعداد طهران للحوار مع ترامب في ولاية ثانية أو بصعود بايدن، ما جعل الفصائل تعود خطوة إلى الخلف".
يرى رئيس مركز التفكير السياسي أن هذه الجهات "لم تلتزم بما تحدثت به المرجعية الدينية في النجف من قبل وكذلك رؤيتها التي قدمتها في قضية الذهاب نحو الحلول السياسية والتي هي ليست وليدة الآن"، وأن تراجع الفصائل العراقية "يرتبط بموقف إيران كموقف سياسي أكثر مما هو مرتبط بالالتزام الكامل برؤية المرجع الأعلى رغم إمكانية تماهي الفصائل مع رؤية المرجع؛ لكن الأساس هو موقف سياسي قد يكون صدر من إيران".
يُذكر أن أروقة سياسية ووسائل إعلام تتناقل منذ أيام أنباءً عن تهديد أوصله وزير الخارجية مايك بومبيو لرئيس الجمهورية برهم صالح بإغلاق سفارة واشنطن في بغداد ومعالجة الأهداف في حال لم تتوقف الهجمات على البعثات الدبلوماسية.
اقرأ/ي أيضًا: