الميزة التي تتمتع بها عموم التنظيمات الإسلامية أنها سريعة التلون والانتقال. إنها تمتلك قدرة استثنائية بتبديل جلدها من لون الخطابات الأيديولوجية الصلبة إلى لون الفعل البراغماتي المرن طالما يتعلق الأمر بالسلطة. وهي بهذا تختصر طريقًا وعرًا وشائكًا للدراسات النظرية المهتمة بحركات الإسلام السياسي ونقد الخطاب الديني.
لم تأتِ كتابات نقد الخطاب الديني بجديد، لكن التجربة العملية لهذه التنظيمات أفادتنا بجملة متغيرات مهمة كان من العسير جدًا فهمها لولا المشاركة الواسعة للتنظيمات الإسلامية في السلطة. الدراسات الأكاديمية مهمة بلا شك، لكنها لا تتعدى حدود الطبقة المثقفة، وتبقى رقعة القراء ضيقة لدرجة أنها لا تسهم في التغيير مثلما تفعل التجارب العملية المباشرة.المشكلة حين يتم ربط الممارسة السياسية بالعقيدة الدينية وتخضع كل مؤسسات الدولة لهذا المنطق
إن الخبرة العملية التي أفرزتها لنا تجربة العراق السياسي "الجديد"، والتي منحتنا تقديرات إضافية عن التنبؤ بسلوك التنظيمات الإسلامية، هي رأسمال الأجيال اللاحقة بكل تأكيد. وهذا الكلام لا يشمل جماهير التنظيمات الإسلامية، فهؤلاء في عالم موازي ولا يخضعون لسير الوقائع الملموسة، وفضلوا العيش خارج أحداث التاريخ، وهم ملتزمون بحرفية عالية بالمنطق التبريري الشائع في أدبياتهم.
نستطيع أن نجادل بهذه الحقيقة لأقصى مدى ممكن، وهي أن الفوائد البعيدة المدى التي سوف تجنيها الأجيال اللاحقة من التنظيمات الدينية تتعدى بكثير كل التنظيرات الأكاديمية رغم أهميتها كما ذكرنا، لأن هذه التنظيمات استطاعت أن تبرهن عمليًا، وبشكل لا لبس فيه، أن ميدان السياسة هو ميدان مصالح، بينما ميدان العقيدة هو ميدان مبادئ.يمكن لفرد محصن ضد الحقائق أن يجادل بكل يقين عن وجود بعض الاستثناءات فيما ذكرناه، لكن، وبما أنه محصن ضد الحقائق، فنتركه يستمتع بطريقته الخاصة. ذلك أن الجدل المنطقي عابر لكل أشكال الحوار الموضوعي، وهو قائم على تصورات بالغة التجريد، لا تلامس الواقع بما هو كذلك بقدر ما تحاول إسقاط آليات جامدة ليس لها رابط موضوعي بحركة التاريخ. فليس من الصدفة في شيء افتعال مشاكل وهمية لا وجود لها من قبل هذه التنظيمات وجمهورها السعيد والاعتياش على منطق المؤامرة، لأنهم فقدوا الصلة بالواقع إطلاقًا.
المشكلة ليس من الخطيئة أن تمارس السياسة بوصفك "متدين"، فهذا حق مكفول للجميع دون استثناء، ولا المشكلة أن تشكل تنظيمًا سياسيًا يشارك في العملية السياسية، المشكلة حينما تحاول ربط الممارسة السياسية بعقيدتك الدينية وتخضع كل مؤسسات الدولة لهذا المنطق.
وبالمناسبة ما يجري على التنظيمات الإسلامية يجري كذلك على كل التنظيمات الأيديولوجية؛ فسواء كنّا إسلاميين، أو قوميين، أو يساريين، فالمخرجات واحدة، وهي تضخيم السلطة على حساب الدولة. ولا تختلف جماهير هذه العناوين الثلاثة من حيث الجنون الشعبوي، فهم في الجنون سواء مع اختلاف الدرجة.
المهم في الأمر، إذا جادلنا ببعض الخطوط العريضة التي تسمح بإدخال المبادئ الدينية في بنود الدستور وقانون الأحوال الشخصية، لكن تبقى الهياكل الإدارية والقانونية بعمومها، فضلاً عن السياسة الخارجية، لا يمكن أن تستقيم تحت ظل سلطة تتقنّع بالقيم الدينية، فالمصالح والمفاسد التي يحددها منطق الدولة لا تجري بما يشتهي العقائديون.
مؤسسات الدولة شيء، وكونك تنظيم ديني يحكم تحت ظل قوانين هذه الدولة شيء آخر. بيد أن التنظيمات الإسلامية، على وجه الخصوص، تضع الدولة ومؤسساتها في آخر سلّم الأولويات، ولا تستجيب لمنطق العمل المؤسسي.
ربما تكون بعض التنظيمات الدينية صادقة في مساعيها ومخلصة لمبادئها، غير أن النتائج الكارثية يمكن أن تأتي من أصحاب النوايا الحسنة! لأن شعورهم بالحق يدفعهم إلى شرعنة الآليات والطرق التي ستحقق أهدافهم. فما دامت الأهداف نبيلة والدوافع صادقة، ما الضير لو خضنا حربًا "مقدسة"؟ ما المانع لو غيّبنا قطاعات واسعة من الشعب بحجة التآمر على مثلنا العليا؟ أليست المحافظة على المثل العليا تبرر استخدام مختلف الآليات؟ ما المشكل السياسي لو غيرنا خطابنا الممانع تجاه أمريكا "الشيطان الأكبر" بسرعة تفوق على سرعة الضوء؟ هذه الانتقالات السريعة والمفاجئة تثبت لنا شيئًا واحدًا لا غير وهو أن السلطة هي أقدس مثال، واستنادًا على هذه الحقيقة يكون لسان حال التنظيمات الإسلامية: الضرورات تبيح المحذورات.