لا يجد مرض "جلد الذات" مكانه إلا في أوقات التعبير عن الهزيمة بشتى تمظهراتها، والحديث عن الهزيمة عربيًا هو بديهي في ظل الاستبداد وتنامي الشعور بالفشل، إضافة إلى عدم الاستقرار الأمني والسياسي، فضلًا عن الاستمرار في تكرار الأخطاء داخليًا والشعور الدائم بالغبن لشعوب المنطقة، مع التعامل السياسي فيما بين الدول العربية الذي اتخذ أشكال القوة وتبادل العداءات في بعض الأحيان، الأمر الذي أنتج جدران عازلة فيما بيننا كشعوب عربية متقاربة جغرافيًا.
إطراء التطبيع وفق لغة المصالح والخنوع، الذي يطرح من قبل بعض المواطنين العرب، ربما لا يعبر عن اعتقاد بأن إسرائيل دولة يريدون فعلًا التطبيع وقيام علاقات معها، لكنه تعبير عن سؤال واحد، هو سؤال النموذج والدولة
يتجلّى مرض "جلد الذات" في التعامل مع إسرائيل، العدو التاريخي المشترك بالنسبة للعرب، والذي يساهم في تدمير هذه الشعوب ويدعم تجارب الاستبداد وعدم قيام تجربة ديمقراطية تكون أنموذجًا حيًا بالإمكان أن يتمدّد في المنطقة، ويصنع مناعة داخلية أمام خرافة دينية عنصرية وعرقية. حيث إن بعض العرب اليوم، والذين يطلون علينا من خلال برامج التواصل الاجتماعي، تراهم عند الحديث عن الكيان الصهيوني يضخمون أخطاءهم مع شعور باللذة عند الحديث عنها، ويظهرون وكأنهم المسؤولون عن النكسات المتوالية بما يخص حالات التراجع المريع في الدول العربية، والتي لم تركب قطار الدول المتقدمة أو هي لم توفر أدنى مقومات العيش الكريم للمواطن، فضلًا عن إعطائه الحق في الكلام أو الاعتراض عما يمر به من آلام وانحطاط لا ينتهي عند جوعه وجوع أطفاله.
بدت هذه المشاعر السلبية طافحة عند زيارة رئيس وزراء الكيان الصهيوني بنيامين نتنياهو إلى سلطنة عمان، ووقوفه في صورة واحدة مع السلطان قابوس بن سعيد، فهم يقولون، إن "العمانيين يعيشون بسعادة في بلدانهم فلم لا نكون مثلهم؟"، إضافة إلى التضليل الإعلامي الذي تبثه بعض النوافذ الإعلامية بخصوص التطبيع والعلاقة مع إسرائيل، وتلقيها من قبل الكثير من مروجي الأنظمة التي تنوي التطبيع، الذين يعترفون ضمنًا أن إسرائيل سبب مشاكلنا كمنطقة عربية. يجيء هذا دون الحديث عن حقوق الشعب الفلسطيني، أو حقوق الشعوب العربية، مقابل ترويج مقولة: صالح واقبل بما تفرضه "إسرائيل" لتعيش!
العراقيون، يمرون منذ 40 عامًا بهزائم لا تكاد تنتهي، بدأت بالانقلابات وسرقة الدولة من قبل حزب واحد سيطر على مقدرات البلاد، إضافة إلى الحروب والحصار والاحتلال والتفكيك الانقسام والإرهاب، لكن الكثير منهم بالرغم من هذا لم يترك القضية الفلسطينية، ولم يتخلى عن عدائه لإسرائيل، الأمر الذي جعل الأخيرة تفتح صفحات في العراق على غرار "إسرائيل باللهجة العراقية"، للدعوة إلى التطبيع وممارسة التضليل بحجة اليهود العراقيين.
اقرأ/ي أيضًا: تطبيع رعاة الإرهاب.. إسرائيل والسعودية على مائدة استخبارية واحدة
وبسبب هذا التفاعل العراقي يكتب الناشطون العراقيون بين فترة وأخرى عن قضايا تخص إسرائيل وترفض التطبيع، لكن بعض العراقيين الذين شربوا من كأس التجهيل الممنهج والمؤسس، بدأوا يتصالحون مع الدعوة إلى التطبيع، إضافة إلى الدعوات التي تنادي بفتح سفارة إسرائيلية، للخلاص من هذه الهزائم التي بدأت برأيهم منذ أن كان الجيش العراقي يقاتل إسرائيل، كما يعبرون عن رفض حالة الحرب العراقية المستمرة مع إسرائيل، ويقولون بأعلى أصواتهم: أعلنوا السلام لنخلص!
حجة أصحاب الدعوة إلى التطبيع أن الفلسطينيين كانوا من أكثر الانتحاريين في العراق. تعود إلى الإحصائيات الرسمية والعالمية، فلا تجد شيئًا من هذا القبيل، بل تجد أن أقل نسبة من الانتحاريين من غير العراقيين، هم الفلسطينيون، فضلًا عن أن الكثير من العراقيين كانوا من قادة الإرهاب في الداخل، سواء في تنظيم القاعدة أو داعش. من المسؤول عن هذه الدعايات ومن المستفيد منها؟ ترجع إلى الوسائل التي نشرت هذه الدعاية فتجدها أكثر قربًا من إيران "المقاوِمة الممانِعة"، وهذا هو نموذج الممانع الذي يقف ضد فلسطين في سياق سياسة الانقسام، ثم يذهب ليساهم في قتل الشعب السوري، وتدعيم سلطة الاستبداد، مبررًا ذلك بشعارات جوفاء تستهلك فلسطين!
في هذا السياق الذي تُطرح فيه حجة الإرهاب، نتساءل فيما لو أن داعش قامت ببناء الموصل وباقي المحافظات التي سيطرت عليها، وتم إعمارها وأضافوا عليها الاستقرار، هل يحق لنا أن ندعوا للتطبيع مع داعش وتبادل السلام معها؟ لا تجد أي جواب بهذا الخصوص، بينما ستكون الكلمة الواحدة المتداولة كثيرًا هذه الأيام هي "المصالح"، وحتى الأخيرة ليس في القاموس الإسرائيلي وجود لها، فهذه مصر ومعها الأردن، فيهما سفارات إسرائيلية، وعلاقة جيدة مع مصر بعد السيسي خصوصًا، بينما تعانيان اقتصاديًا ويتراجع استقرارهما بشكل ملحوظ، لكن الأحكام الجاهزة التي تبث عبر المنصات المدفوعة لا يوجد فيها إلا الشعور المفرط بـ"الدونية وجلد الذات"، دون سؤال للعقل والمنطق والواقع الذي يقدم الأجوبة دون بحث أو تقصٍ.
إطراء التطبيع وفق لغة المصالح والخنوع، الذي يطرح من قبل بعض المواطنين العرب، ربما لا يعبر عن اعتقاد بأن إسرائيل دولة أو أنهم يريدون فعلًا التطبيع وقيام علاقات معها، لكنه تعبير عن سؤال واحد، هو سؤال النموذج والدولة، خاصة بعد فشل الدولة القومية والانقسام الحاصل على مستوى الهويات.
حيث كان صدام حسين يمارس الاستبداد باسم القضية الفلسطينية، واليوم تمارس إيران آليات الخراب باسم القضية الفلسطينية ومعهما الأسد في سوريا، إضافة إلى طلائع المطبعين في المنطقة بشتى دولهم الاستبدادية. غاب النموذج الديمقراطي، ومعه الدولة المستقرة، المكتفية بسياستها، لهذا تراهم ينشدون العدو، يمدحونه في سباق لإيذاء ذواتهم وجلدها، كأنهم يقولون: نريد دولة حقيقية، لا سلطات ضباط وعوائل تتضخم على حساب الدولة، فالأخيرة وحدها من تطيح بهذا السرطان الذي يقف عائقًا أمام كل تقدم في هذه المنطقة، مسلوبة الإرادة!
اقرأ/ي أيضًا:
السعودية تستأنف رحلة تطبيعها الكامل مع إسرائيل.. تل أبيب محبوبة "العرب"!
السعودية وإسرائيل.. تعاون استخباراتي وثيق وقرع لطبول حرب في المنطقة!