11-أغسطس-2021

(جاكسون بولوك)

أحببت الفنان جاكسون بولوك مذ رأيت عملًا له صدفة في مجلة وأنا طفل. أعرف الآن أني أحببت تلك اللوحة لسببين لا يمكن فصل أحدهما عن الآخر: الأول لأنها جميلة، أما الثاني فلأني كنت على ثقة بأني قادر على أن أرسم مثلها.

مبتدئو الشعر، المسحورون به في طفولتهم، يلتقطون القافية أولًا لا الوزن ولا المعنى

الجميلُ السهل هو ما يقود إلى محبة الفنّ، لأنه لا يشكّل تحديًا للطفل ومع ذلك يسحره، يأخذه من يده موهمًا إياه أنه قادر على اجتراح عمل كهذا.

اقرأ/ي أيضًا: لا تفتح الباب للغرباء.. عن العلاقة المأساوية بين الشاعر وقارئه

مبتدئو الشعر، المسحورون به في طفولتهم، يلتقطون القافية أولاً لا الوزن ولا المعنى. القافية سهلة والوزن صعب والمعنى أصعب. ظلال الوزن مثلها مثل ظلال المعنى تظلّ في خلفية المشهد دائمًا، والحضور الأبرز يكون للقافية. هناك شيء ما يوهم الأطفال أن الشعر يتركز في هذا الحرف الذي يتكرر في أواخر العبارات.

هكذا في طفولتي البعيدة اقتادني السيّاب إلى الشعر، جرّني بحرف الراء في هذه الجُمل:

الماء في الجرار والغروب في الشجرْ

أجراس برج ضاع في قرارة البحر

وتنضح الجرار أجراسًا من المطر

صليل آلاف العصافير على الشجر

أغابة من الدموع أنت أم نهر؟

والسمك الساهر هل ينام في السّحر.

مطر

مطر

مطرْ

القافية فخّ الطفل، لأنها بالضبط مصيدة مغفلين، تخبرك أن الأمر سهل للغاية وأنك قادر على تجميع هذه الكلمات المنتهية بذات الحرف لتدخل مجمع الشعراء. قال نيتشه يومًا عن القافية أنها "تنفع لاصطياد الآلهة"، سنفهم هذه الجملة إذا فكّرنا بالتعازيم والصلوات والأناشيد الكنسية والترنيمات وسجع الكهّان والأدعية ونفث الساحر والطلاسم واستحضار الجانّ وصرف العمّار ونصوص الربط وفكّ المربوط، وكلّها تشترك في أمر واحد وهو القافية ـ السجع في آخر كل جملة منها. تستدعي القافية فيها القوى الغيبيّة لتحضر، أو تستجلب القوى الخفية في الإنسان نفسه، فيغدو تكرارها أشبه بالطرق المتواصل على بابٍ لا يُرى.

هذه الوسيلة المجرّبة منذ آلاف السنوات لاصطياد الغيب، يبدو أنها تفلح في اصطياد الأطفال أكثر من أيّ أحد آخر، تغويهم وتقتادهم إلى الشعر، وما من شاعر إلا وقد انطلت عليه هذه الحيلةُ قبل أن يكتشف أن في الأمر خدعة كبرى.

لنعد إلى بولوك فقد بدأنا به.

هذه الخدعةُ التي تقوم بها القافية في طفولة الشاعر، تتلخص بالجملة التالية: "هذا جميل لكنه سهل". ولأنه سهلٌ يمكنني أن أجرّب أنا أيضًا، فلأجرب إذن. ومذّاك ينشأ خيط تواصل مع الشعر، تواصلًا ساذجًا لكنه يفي بالغرض تمامًا، نار كبيرة يمكن أن تشتعل من عود الثقاب الصغير هذا.

يقول الطفل: "هذا جميل لكنه سهل".

ثم يزداد الإغراء أكثر فأكثر فتصبح الجملة فيما بعد: "هذا جميل برغم أنه سهل".

ثم تطبق عليك الغواية لتصاغ الجملة كالتالي: "هذا جميل لأنه سهل".

وتبدأ محنتك التي لا تنتهي.

في النصّ القرآني، حيث لا وزن "وما هو بقول شاعر"، يكون للسجع في أواخر الآيات وقعُ مطارق نغمية على السمع والعقل. فخاخٌ مبذورة في القرآن لاصطياد وعي قارئه وانتباهه والشروع بعمل تركيز للفهم والحفظ معًا، بعونٍ من هذا التنغيم. إنّ هذا التوقيع في آخر الآية هو أوّل ما يلحظ في القراءة، بحيث بات سمة القرآن في أذهان الناس، بدليل أن كلّ الذين حاولوا تقليد القرآن، تحديًا أو لهوًا أو حتى سخرية، نسجوا كلامًا كيفما شاءوا لكنّهم اشتركوا جميعًا في الحرص على أن تكون جملهم موقّعة بالسجع في آخرها، لتشابه الآي القرآني.

هنا أيضًا، التوقيع الذي يشبه القافية أصبح مصيدة مغفلين.

لكنّ من يستسهل القرآن بسبب سجعه، ليس كمن يستسهل الشعر بسبب قافيته، الأول يعبئ استسهاله بحمولة أيديولوجية، يريد أن يظهر النصّ القرآني بوصفه نصًا ممكنًا، وبالتالي يفرغه من مصدره الإلهيّ ومن قداسته، وهذا ليس شغلاً بريئاً على أية حال.

أما مستسهل الشعر بالنظر إلى قافيته، فهو جاهلٌ بالمعنى الذي يتلازم فيه الجهل مع البراءة، يجهل لأنه بريء، وهو بريء بسبب طفولته التي من ضمن شؤونها الجهل والبراءة.

من يعرِفْ يُطرَد من جنّة الطفولة إلى البلوغ حيث زمن التعب والكدح والمشقّة ولا يعود بريئًا

وبطبيعة الحال فإنّ السعادة المقيمة في الطفولة، كما في الحنين إليها، إنما هي السعادة التي تتخلّق من هاتين الخصلتين: براءة وجهل، لأن الطفولة لا شيء سوى هذه المرحلة التي تسبق المعرفة والخطيئة. الخطيئة لا تأتي إلا بعد معرفة، إلا بعد إعمال تفكير، "إنه فكّر وقدّر فقُتل كيف قدّر ثم قُتل كيف قدّر"، ومع التقدير الذي هو ابن المعرفة يكون الإنسان عرضة للمقادير.

اقرأ/ي أيضًا: قبل أن يقعَ الكلامُ على العالم

تلازم وتواشج كبيران بين الجهل والبراءة، بين عدم المعرفة وعدم الذنب، أليس في الحكاية الدينيّة أنّ الشجرة التي نهى الله آدم وزوجته أن يأكلا منها هي شجرة المعرفة؟ أباح لهما كلّ الأشجار التي في الفردوس إلا هذه الشجرة التي إذا أكلا منها صارا عارفين، قابلينِ لارتكاب الخطيئة.

من يعرِفْ يُطرد من الجنّة إلى الأرض حيث دار التعب والكدح وصنوف المعاناة، لأنه لم يعد بريئًا. تمامًا كما أن من يعرِفْ يُطرَد من جنّة الطفولة إلى البلوغ حيث زمن التعب والكدح والمشقّة ولا يعود بريئًا.

لعلّ توقنا إلى بلوغ الفردوس، وحنيننا إلى الطفولة هو توقٌ إلى الجهل السعيد، وحنين إلى براءة عدم المعرفة؟

 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

لا أحد يعرف أحدًا

هل الصفحُ المستحيل ممكن؟

دلالات: