12-أغسطس-2020

وحده ذلك الغريبُ يعرف من هي فروغ فرخزاد (فيسبوك)

لا أحد يعرف أحدًا. نحن أبواب مغلقة لا مفاتيح لها. مجهولون حدَّ أننا نشكل على أنفسنا ونتيه عنها، فكيف يريد هذا الذي يقصّ خبرنا أن يعرفنا؟

نحن طرق مسدودة، نوافذ لا تطلّ، أبواب مغلقة على ما لا عين رأتْ ولا أذن سمعتْ ولا اعترض على خيال بشر

اقرأ سيرة حياة شخص ما، واستمع لما يقوله عنه القريبون منه، يصفون دقائق يومه، يرسمون قسمات وجهه حين يفرح أو يغضب أو يشمئز أو يحزن، يعدّدون عاداته ويضعون أمامك سجلًّا بما يحب ويكره، لكنه غائبٌ عن ذلك كلّه. ذاته في مكان بعيد لا يطالها الوصف، وكلّ الذين يحكون عنه إنما يحكون عنه في غيابه.

في كلّ كلام عن شخص ما فإن الشخص بعيدٌ حتى لو كان لصقك.

ما من سيرة شخصية إلا وهي غير مصادَقٍ عليها من قبل الذات.

الآن أتممت قراءة كتاب فرزانة ميلاني الكبير عن فروغ فرخزاد، وفيه كلّ شيء، كلّ شيء عن الشاعرة التي أحبُّ. ما من شأن من شؤونها، صغيرها وكبيرها، إلا وهو مسطور في هذا الكتاب، ولا أحد عرف فروغ، من قريبٍ أو من بعيد، إلا والتقته ميلاني واستنطقته وقال كل ما يعرفه عنها: أختها، زوجها، أبوها، ابنها، عشيقها، زوجة أبيها، صديقاتها، المصحح اللغويّ، والعابرون في حياتها وشعرها، كلهم تكلموا في هذا الكتاب وقالوا ما في وسعهم، حكوا لنا ما عرفوه، ولكنهم يقولوا شيئًا.

اقرأ/ي أيضًا: هل الصفحُ المستحيل ممكن؟

أين هي فروغ في هذا السرد؟ لمَ لمْ يسعف روحها أحد حين قررت خمس مرات أن تنتحر؟ ولم كانت تنتحر وتنجو وتعاود الانتحار؟ ما الغريبُ الذي فيها؟ ما الخارجيّ الذي استوطنها؟ ما لون العذاب الذي كانت تهرب منه؟ لمَ هي متمردة و"محطمة أصنام كما تصف نفسها" وتركع عند قدمي حبيبها في رسائلها "فداؤك أنا، فداء بدلتك وحذائك"، من رآها من بين هؤلاء، من عرفها، من أدار المفتاح في صندوق وجودها وأخذ كلمة السرّ؟ إذا كان حبيبها لا يعرف لم استأذنته لتخرج في السيارة قليلًا ثم بعد ربع ساعة ماتت؟ إذا كان لا يعرف إنْ كان موتها انتحارًا آخر أم مجرد حادث؟ إذا كان لا يستطيع أن يخبرنا لمَ كانتْ تنقلب في ذروة فرحها، فجأة، إلى صخرة كآبة صماء، فمن سيخبرنا؟ لا أحد

لأنه ما من أحد يعرف أحدًا

نحن طرق مسدودة، نوافذ لا تطلّ، أبواب مغلقة على ما لا عين رأتْ ولا أذن سمعتْ ولا اعترض على خيال بشر.

كاتبة سيرتكِ أيتها الشاعرة العزيزة، والمتكلمون عنكِ لم يروا منكِ إلا المعرفة المخلوطة بجهلهم بكِ، ولولا ذلك ما كتبوا ولا تكلموا.

وحتى حين كنتِ وأنتِ حيةٌ حاضرةً أمامهم تبتسمين، وقالوا عنكِ كلمة ما، فإنما قالوها في غيابكِ، كانوا يتفرسون في قسمات وجهك ولون ثيابكِ ويشمون عطركِ ويدققون النظر في عينيكِ يريدون أن يعرفوا كلّ شيء عنكِ، بينما أنتِ هناك، تطعمين الوحشَ الغريب روحكِ قطعة فقطعة إلى أن شبع منكِ أخيرًا.

وحده ذلك الغريبُ يعرف من أنتِ وما أنتِ. لأن حياتكِ، ومثلها حياة كل إنسان، جرح لا يلتئم إلا بالموت.

 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

كيف نفهم بورخيس؟

لا تفتح الباب للغرباء.. عن العلاقة المأساوية بين الشاعر وقارئه