08-فبراير-2019

تظاهرة للصدريين وهم يحاولون اقتحام الجسر المؤدي إلى المنطقة الخضراء (Getty)

بدا أن جيشين تقابلا في محيط أقل من أربعة كيلومترات، للوهلة الأولى حين اقتربت سيرًا من أول المشاهد الاحتجاجية الكبرى التي كان يمكن أن توضع في سطر بارز حين يُكتب تاريخ الاحتجاج في العراق بعد العام 2003، وربما في تاريخه الحديث منذ 1921. كان المكان، قبالة حائط الخرسانة المعزّز بالأسلاك الشائكة والكاميرات، الحد الإسمنتي الأصم بين المنطقة الخضراء وباقي العراق، والزمان في ظهيرة 30 نيسان/أبريل 2016، في الحدث الأكبر، اقتحام آلاف المتظاهرين المؤيدين لزعيم التيار الصدري، مقتدى الصدر، المنطقة الخضراء، اقتحموا وقتها عدّة حواجز مع جسر، بالإضافة إلى المنطقة الدولية في قلب بغداد، للمطالبة بالإصلاح وتحسين الخدمات وإسقاط نظام المحاصصة!

يمكن أن يوضع اقتحام الخضراء من قبل المتظاهرين كمشهد بارز في تاريخ الاحتجاجات بالعراق

قبلها، كان رئيس الوزراء السابق، حيدر العبادي، يراهن على الوقت، لامتصاص فورة غضب أيام القيظ في صيف 2015، شرارة أشعلتها كلمات وزير الكهرباء السابق قاسم الفهداوي الذي سخر من تهويل أزمة الطاقة بالقول "أطفئوا سخانات المياه أولًا". لكن هذا الهدوء لم يتحقّق كما كان يأمل، لأن الصدر كان على موعد مع أول مجازفة له منذ قراره بـ"تجميد جيش المهدي".

حسابات قديمة - جديدة

حتى تلك اللحظة، ثمة من كان يقف مكتوف الأيدي ويتفرج، ولم يكن حينها يقدر للصدريين لعب دور محوري في التظاهرات لولا مناخ الغضب العام الذي هدّد سيطرة مقتدى الصدر نفسه على جمهوره الهائل. لا أحد كان يجرؤ على قول هذا للصدر، إنه هو الذي أمهل المالكي ستة أشهر لتحسين أداء حكومته أيام ولايته الثانية وفي ذروة أيام تظاهرات شباط/فبراير 2011، مخلصًا حكومة المالكي من الطوق الاحتجاجي الذي خنقها، فسح الصدر حينها المجال والوقت أمام المالكي للتعامل مع تظاهرات "مدنية – مستقلّة" تقودها منظمات المجتمع المدني والنخب.

اقرأ/ي أيضًا: احتمالات مقتدى الصدر الشاسعة.. هدم جدار المنطقة الخضراء أم الاعتصام أمامه؟

انزوى الصدريون طويلًا، بعيدًا عن الشارع. أجبر الصدر وزراءه على الانسحاب وقتها، فضّل بعضهم الانخراط في صفوف من يدفع أكثر، بينما بقي الجمهور يعيش على أخبار الحنانة في النجف عبر صحافته ورجالاته، بينما استمرت صفقات كتلة الأحرار ممثلة الصدريين في البرلمان، كانت تصريحاتهم تستقبل بالبرود الذي يستقبل به الصدري أي أحد غيرهم، راوحت كتلة الصدريين النيابية بين الممانعة على الشاشة والاتفاق من تحت الطاولة على تقاسم ما يمكن تقاسمه، وحتى مع هذا، كان الصدريون يعرفون أن لا "ممثل لهم" في دوائر الدولة الحسّاسة التي يهيمن عليها حزب الدعوة، وبقيت مناطقهم السكنية الفقيرة تضم ملايين بشرية تموج بالغضب، بلا خدمات وبلا فرص عمل وبلا أمل.

"لم نكن ننتظر تبليغ المكتب"

قبل الإمساك بالشارع والقلوب بالتظاهرات المليونية، وقبل سقوط أي كتلة كونكريتية من جدار المنطقة الخضراء، كان أمر مشاركة الصدريين كأفراد باحتجاجات بغداد في 2011 واقعًا، لكنهم جموع غير منّظمة، فضلًا عن غضبهم غير المستغل للوقوف بوجه حفلات الانحطاط السياسي في العراق.

وبغض النظر عما عليه الأوضاع داخل التنظيم الوسطي للتيار الصدري المعروف بصرامته في اتخاذ القرارات وتطبيقها، فإن الطاعة العمياء التي يشتهر بها أتباع الصدر، يقابلها روح متمردة كثيرًا ما تُستلهم من التراث السياسي لمحمد محمد الصدر، والد زعيم التيار الصدري الحالي مقتدى الصدر.

يعرف الصدريون أن لا ممثل لهم في دوائر الدولة الحسّاسة حتى من انتخبوهم وحصلوا على مقاعد في البرلمان بسببهم!

في 17 آذار/مارس 2016 كنت أغطي تطوّرات انتزاع الصدريين شوارع حي التشريع قبالة المنطقة الخضراء من قبضة القوات الأمنية، لنصب خيم اعتصام سيدوم 13 يومًا. التقيت يومها مجموعة شباب كان بينهم من أكد لي خبرته في التظاهر والاعتصام، سألتهم عن أول التظاهرات التي شاركوا فيها، أجابوا أنها تظاهرات ساحة التحرير في شباط/فبراير 2011، قال أحدهم، واسمه حسين أبو علي، إننا "كنا نتابع الفيسبوك ونعرف وقت التحشيد ومكانه، لم ننتظر توجيه مكتب السيد في مدينة الصدر للخروج".

اقرأ/ي أيضًا: آفاق حراك الصدريين.. فسحة لبناء عراق مدني!

يقول أحد المسؤولين السابقين في مكتب الصدر، إنه في شباط/فبراير 2011 كان هناك شك في أن بعثيين يهيمنون على تنظيم تظاهرات لإسقاط النظام. كنا في شك ولهذا لم نتخذ قرارًا بالمشاركة، مستدركًا، لكن لم نمنع أي أحد من المشاركة صبيحة ذلك اليوم، ولم نصدر أمرًا بعدم جواز المشاركة. يسكن الصدريون في أفقر مناطق بغداد والمحافظات، ويعانون من غياب أبسط الخدمات، لهذا هم على استعداد أن يمارسوا الاحتجاجات، شريطة أن يجدوا من يحرضهم على الاحتجاج، سواء من القادة أو تأثيرات الشارع، كما حدث في 2011.

من "الثورة الشعبية" الى "سائرون"

لم ينتظر الصدريون طويلًا قبل الدخول على خط التظاهرات، بعد الاعتداء على المتظاهرين المدنيين وكل المشاركين الذين ليس لهم مرجعية دينية أو طائفية، اعتدي عليهم واستضعفوا يوم 12 شباط/فبراير 2016 في ساحة التحرير ببغداد، بعدها كان الوجود الصدري علنيًا منظمًا وبالتنسيق مع الحلفاء الشيوعيين والمدنيين، بشعارات وأساليب غير عنيفة تم الاتفاق بشأنهما، تحسبًا لعدم الهيمنة التي يفرضها الحضور العددي القوي للصدريين على هوية الاحتجاج "الوطنية".

ومع اكتساب التظاهرات زخمًا سياسيًا صارت الأجواء حافلة بالمزيد من التصاعد، حتى بعد الاعتصام الذي فكّكت خيامه بهدوء، إثر قرار الصدر بمهلة جديدة. لكن هذا لم يستمر طويلًا بعد مماطلة العبادي، في 19 أيار/مايو 2016، بات الصدريون ليلتهم بانتظار "صلاة الجمعة" وحدث آخر لم يكن في حسبانهم أن يتحقّق، رغم ترجيحه.

ظهرًا كنت في ساحة التحرير أحاول شق طريقي إلى مقدمة المتظاهرين المتأهبين لكسر الأطواق الأمنية على جسر الجمهورية، حين اتصل بي أحد الزملاء في إحدى القنوات الفضائية بعدما فقد الاتصال بمراسله في الاشتباكات، قال: "علي هناك أخبار أنهم سيقتحمون الخضراء مجددًا"، انقطع الاتصال بهذه الجملة.

اقرأ/ي أيضًا: تحالف "سائرون" والفتح في العراق.. سطوة إيران المتجددة

لم يُسقط المتظاهرين سوى عدّة كتل كونكريتية، وبوابتين تؤديان إلى مبنى مجلس الوزراء والأمانة العامة حتى ظهرت القوات الأمنية على الجانب الآخر. لم أفلت مع مئات آخرين من المأزق، حُشرنا في ممر مؤد إلى الخارج تحت أزيز رصاص حي وقنابل دخان مسيلة للدموع. كان مشهدًا سينمائيًا لمعركة غير متكافئة، دفع بضع مئات من الجنود، آلاف من المتظاهرين من حي التشريع صوب جسري الجمهورية والسنك بالرصاص الحي والمطاطي، وقنابل الدخان، سقط في ذلك اليوم أكثر من 14 متظاهرًا وجرح ما يقارب الـ200 في تلك الساعات القليلة من متظاهرين كل ما طالبوا به الخدمات وتغيير نظام المحاصصة.

قتل في اقتحام المنطقة الخضراء من قبل المحتجين في 2016 أكثر من 14 متظاهرًا وأصيب نحو 200 متظاهر!

اتسع نطاق الغضب، وانتشرت شعارات "الثورة الشعبية" على الجدران وفي الشوارع، ورغم ملامة جمهور كبير ناقم على العملية السياسية، ينتظر بفارغ الصبر الإطاحة بحكام "ما خلف الصبات" بعد اعتصامٍ وانسحاب من المنطقة الخضراء، إلا أن أتباع الصدر يؤمنون به حتى النهاية. كسب الصدر تعاطفًا مرحليًا من عامة لا منتمية، انحسر هذا لاحقًا بعد الانتخابات إثر "الاشتراك في الحكومة".

"إيران برة برة"

تحسّس الجميع في العملية السياسية الصدع الكبير في جدار الأغلبية الشيعية الحاكمة، انهار التحالف الوطني الذي بني على أساس طائفي تحت ضربات معول الصدريين والمحتجين، فراق نهائي يُشترط إنهاؤه بخروج العدو الأول، حزب الدعوة.

في الأول من تشرين الثاني/نوفمبر 2016، قدّم الصدر 14 شرطًا من أجل العودة إلى حضن التحالف الوطني، كان أسهلها صعب التنفيذ، بل من المستحيلات على التحالف. خرج الصدر مغردًا خارج سرب الأكثرية السياسية الطائفية لأول مرة، بعدما أثبتها في الشارع، فقد كان مزاج الصدريين واضحًا حين اعتصموا قرب السفارة الإيرانية، بل إن صدمة كبيرة لحقت بالمسؤولين في طهران وهم يشاهدون الآلاف يدخلون ساحة الاحتفالات وسط المنطقة الخضراء بهتاف "إيران برة برة".

الصدريون ركنوا إلى السلام، غادروا ساحات التظاهر، وضعوا سرايا السلام تحت عدسات الحكومة ومراقبتها، زحفوا بالآلاف إلى صناديق الاقتراع مدفوعين بتشجيع أن قائمتهم "سائرون" تضم كفاءات ووجوهًا "ليست صدرية"، كما اشترط الصدر بذلك، تلقت قبولًا عامًا بالشراكة مع الحزب الشيوعي.

حصلت صدمة في طهران مع صرخات الآلاف من الشيعة وهم يهتفون في قلب بغداد: "إيران برّة برّة"!

انتزع تحالف سائرون صدارة غير مريحة في نتائج الانتخابات، ألقت هذه بكل الأطراف إلى جبهتين لا ثالث لهما في صراع اليوم، تيار بحشد ولائي يحظى بدعم طهران وتيار آخر لا يبدو أن يحوز دعمًا خارجيًا واضحًا ويتخذ قراراته "عراقيًا" على حد وصف زعماء سائرون!

 

اقرأ/ي أيضًا:

عراق ما بعد الانتخابات.. حكومة "الجميع" اليتيمة!

تحالف الجميع مع الجميع في العراق.. العبور من الطائفية إليها!