يعيش النظام الدولي مخاضات عدة، فمن جهة هنالك الأطراف التي ترغب بالحفاظ على الوضع الراهن، وزيادة مساحة نفوذها، والحد من قدرة المعارضين قدر الإمكان، وإضعاف فرصهم في تهديد الوضع القائم، والمتمثلة بالولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها، ومن جهة أخرى هنالك القوى التعديلية على رأسها الصين وروسيا ومن يحالفهما،والتي تهدف إلى تعديل وضع النظام الدولي بما يؤدي إلى قيام التعددية القطبية، والعمل على إزاحة النفوذ والتواجد الأمريكي في ما تعدانه مناطقهما الإقليمية مثل الشرق الأوروبي بالنسبة لروسيا، والشرق الآسيوي بالنسبة للصين، أي أن كلتا الدولتين يصنفان ضمن تصنيف الدول غير القانعة.
لغاية اليوم لا يمتلك العراق تصورًا واضحًا وحقيقيًا لما يريد من العالم
وعلى إثر ذلك ظهرت مشاريع استراتيجية عديدة تتنافس فيما بينها على رقعة الشطرنج الدولية، وكل مشروع يحاول وضع اليد على القدر الأكبر من النفوذ فوق رقعة الشطرنج هذه، ومن هذه المشاريع مبادرة الحزام والطريق الصينية، والمشروع الأوراسي الروسي، والمبادرة الهندية الجديدة التي تم الإعلان عنها في قمة العشرين الأخيرة، وهي بالأساس تهدف إلى منافسة المشروع الصيني، على أساس أن هنالك تنافسًا هنديًا صينيًا على النفوذ في آسيا، وتستثمر الولايات المتحدة الأمريكية في هذا التنافس لصالحها، ومشروع البريكس، الذي يضم خمس دول ثابتة وهي (روسيا، الصين، جنوب أفريقيا، الهند، البرازيل)، وهذا يعد تجمعًا تشاوريًا أكثر مما هو مضاد لهذا الطرف أو ذاك -وإن كان أحد أهدافه الحد من النفوذ الاقتصادي الأمريكي عالميًا-، إلا أن وجود دول بينه تعد حليفة أو شريكة للولايات المتحدة الأمريكية مثل الهند أو البرازيل أو جنوب أفريقيا، يحد من نجاحه في مناهضة الهيمنة الأمريكية، وفضلاً عن ذلك، هنالك المشروع المعروف والواضح المعالم، ألا وهو المشروع الأمريكي الذي يتمثل بحلف شمال الأطلسي (الناتو)، وشبكة من المنظمات الدولية التي انبثقت عن نظام ما بعد الحرب العالمية الثانية، والحلفاء الإقليميين المنتشرين في مختلف المناطق الإقليمية، مثل اليابان، وكوريا الجنوبية، وأستراليا، والمملكة العربية السعودية، والكيان الصهيوني.. الخ، وتقريبًا هو المشروع الأقوى حاليًا، بحكم الإمكانات التي بحوزته.
والغاية مما تقدم، هي للوصول إلى الأسئلة الآتية، ألا وهي: أين العراق من كل هذه المشاريع؟ وهل لديه تصور واضح بشأنها، وماذا يريد أن يكون ومع من يكون؟ وهل الدول أو المشاريع الاستراتيجية الخارجية تضعه ضمن أهدافها وخططها؟
وعندما نأتي للإجابة على هذه الأسئلة تباعًا، نجد لغاية اليوم لا يمتلك العراق تصورًا واضحًا وحقيقيًا لما يريد من العالم، ومن المشاريع الدولية آنفة الذكر، فهو بالأساس إلى اللحظة لم يحسم موضوع الدولة وهويتها الداخلية، ويعاني من تشتت داخلي لا يخفى على أغلب المختصين والمتابعين، الذي يؤدي بالضرورة إلى تشتت وضياع الرؤية الخارجية، فصار بموقع رد الفعل وانتظار الآخر، أكثر مما هو الطرف المبادر وصاحب الفعل، ومن ثمّ القدرة على إقناع الدول بمدى أهميته لمشاريعها الاستراتيجية، فحتى اللحظة نجد أن كل ما ذكرته من مشاريع، قد تجاهلت العراق بشكل أو بآخر، بل حتى أنها تقريبًا أوكلت مهمته للقوى الإقليمية وفي مقدمتها إيران ومن ثم تركيا. فعلى سبيل المثال؛ نجد أن المبادرة الصينية، أو حتى الهندية قد تجاهلته، ولم تضعه في الأساس ضمن خطط مشاريعها، واعتمدت على دول أخرى في المنطقة.
والسؤال: لماذا؟ ذلك لأن القوى الدولية لا ترتبط بشراكات أو تحالفات طويلة الأمد، مع دول هشة أمنيًا، ولا تمتلك القدرة الكافية على حماية مصالحها، فضلًا عن مصالح الدول التي ترتبط معها، فالعراق حاليًا يقع ضمن نطاق الدول الهشة أو الفاشلة، فهو دولة لا تمتلك سيطرة مطلقة على حدودها، ولا تحتكر العنف، القانون فيها ضعيف، وجهازها الإداري بدائي ومتخلف، وبنى تحتية مهترئة، وتنتشر فيها أعمال الفساد والمحسوبيات والمنسوبيات، ولم تزل بعيدة كل البعد عن التطور والتقدم الذي يشهده العالم.
طريق التنمية الذي أعلن عنه السوداني أو الربط السككي مع إيران هي مشاريع عوامل وظروف نجاحها ضئيلة
إن المشاريع الخارجية حتى ترتبط مع دولة، تنظر إلى مدى قدرتها وقوتها وتطورها، فالمال والاقتصاد يبحثان عن الأمن، والسلام، والبيئة الآمنة للاستثمار، وهذه العوامل يفتقدها العراق. وحتى طريق التنمية الذي أعلن عنه رئيس مجلس الوزراء محمد شياع السوداني، أو الربط السككي مع إيران، هي مشاريع عوامل وظروف نجاحها ضئيلة، والأسباب تعود أيضًا إلى ما تم ذكره آنفًا. فحتى تنجح بالقدرة على استقطاب الخارج إليك وأن تكون ضمن مدار الرؤية الدولية، عليك بأن تكون قويًا بما يكفي، وصاحب رؤية واضحة، حينها ستجلس معك القوى الدولية للتفاوض، وإلا ستتجنبك ولا تريد أن تشكل عبئًا لا عليها ولا على مصالحها.