يفصل الإنسان نفسه عن العالم في كل مرة يبني فيها تصوّرات مسبقة عن فهم الذات والآخرين. فمن هذه الناحية لدينا تاريخ بشري هائل مشبع بالألم القسوة. والعراق وجع مصغر لهذه القسوة البشرية، التي فتحت نافذتها علينا قبل أكثر من ثلاثة عقود من ولا زالت حممها تقذف صوبنا كتلًا جهنمية من الحديد والنار. ولا يقتصر الحديد والنار على الموت الفوري فحسب، بل كانت مصاديقه متعددة ومتنوعة بقدر الأوهام التي نحملها تجاه الآخر. ألقت الذاكرة القومية، بشقّها الشوفيني، وليس شقها الذي ينظر للجميع على أنهم وحدة وجود، وتساوى فيه، على سبيل المثال، الكردي السياسي المتعصب، والكردي الفقير الذي عاش بين العوائل العربية بذاكرة مثقلة بالألم والقسوة. إنه تاريخ أمد العوائل الكردية بأدبيات تنظر إليهم كما لو أنهم كائنات غريبة قادمة من الفضاء الخارجي.
حكومة إقليم كردستان لم تعد ذلك الفصيل المسلّح الذي يقاتل من أجل حقوقه القومية؛ كردستان اليوم تعني "بيضة القبّان" في النظام العراقي
هذا التاريخ الذي يأبى أن ينظر للآخر إلّا من حيث المطابقة التامة. أعني، أنه لا ينظر للحقيقة كما تبدو بقدر ما ينظر إليها كشيء مطابق تمامًا لتصوراته القبلية عن الحقيقية. لم يزل الكردي مستغرقًا في أحكامه شديدة القسوة تجاه العربي، طالما أن بعض العرب (أو بعض الأنظمة العربية!) أجرمت بحق الأكراد الأبرياء. فتبقى الأجيال الكردية تتوارث هذه "الحقيقة المطابقة" تجاه العربي بدون استثناء!. على أي حال فلهذا التاريخ سجل مليء بالدم والدموع، ولا نقصد منه إلا مثال الهوية بالتحديد، فللسرد التاريخي المُفَصّل مكان آخر.
اقرأ/ي أيضًا: انطلاق مؤتمر "العرب والكرد" باستعراض تاريخ التعايش وعوامل نشأة القضية الكردية
إن خداع الهوية لهو أكبر مكيدة وقع بها الكائن البشريّ، وأن للعراق حصة كبيرة من هذا الوهم القاتل، وبما أن الهوية تعني مطابقة الواقع؛ فهويتي الدينية، السياسية، القبلية، مطابقة للواقع، فإذا كانت مطابقة للواقع فهويات الغير، مزيّفة تمامًا. ولدي شواهد حيّة عايشتها بأمّ عيني يوم كنت طفلًا في أحد الأزقة الشعبية التي كان تقطنها بعض العوائل الكردية. ولا يوجد لدي مقياس حول كمية الألم التي خلّفها العرب في قلوب العوائل الكردية نتيجة للنكات التحقيرية التي تُشعر الفرد الكردي بدونيته والفرق الكبير بالقدرات الذهنية بينه وبين العربي! كل هذا لأنه لم يكن يجيد اللغة العربية بطلاقة، ولم يكن يمتلك أساليب مماثلة كأطفال المحلة البارعين بدروب الحيل؛ كالنكات الجنسية، والحركات الهزلية، والألفاظ البذيئة، التي تستهوي بالعادة بعض الأطفال، فكانت العوائل الكردية مختبرًا واسعًا للنظرة المريبة تجاه الآخر المختلف.
نسارع إلى الاحتكام لصورنا الذهنية المسبقة للحكم بطرد الآخرين من حظيرة البشر، ليس لشيء سوى أنهم لا يتوفرون على نسخ ذهنية مُخَزّنَة في هويتنا المُصَنَعَة! يمكننا أن نفترس الآخر قبل أن نلتقي به، ونحيل تاريخه إلى محض أكاذيب وخرافات طالما لا توجد إحالات مرجعية سليمة وخيّرة في هويتنا العقائدية (أيًّا كان شكلها) لتاريخه. ولطالما كانت أساطيرنا الشعبية تسعفنا بكل ما يضخّم الذات ويضفي عليها كل ألوان الكذب على الذات. وكمثال على هذا الكذب: لقد كان الأكراد على خلاف ما نتصور، كانوا أكثر ذكاءً ممّا تنفثه لنا هوياتنا من أكاذيب، كانوا، ولا زالوا، يتمتعون بذكاء تجاري مشهود، ومراكز بيع الفواكه والخضار في "علوة جميلة" في قاطع الرصافة شاهد على ذلك. من النادر أن تجد مكتبًا لبيع الفواكه بالجملة إن لم يكن صاحب المكتب من العوائل الكردية التي سكنت بغداد، بينما تشكّل الأغلبية من العتّالين وأصحاب العربات من عرب المناطق الشعبية ذاتها!
وبمرور الزمن، استطاعت العوائل الكردية (وهي لا زالت في قاطع الرصافة) أن تبني لنفسها خصوصية، وتضع حدًا فاصلًا بين ثقافتين كانتا تتبادلان النبذ المتبادل فيما بينهما. (على إننا ينبغي أن نعترف أن مستوى النبذ من قبل العوائل الكردية لم يأخذ جانبًا مباشرًا وصريحًا وسط الأغلبية العربية) فسارع الأكراد بالتجمّع في أزقة موحّدة تميّزهم عن "الشروكَي" الذي أمعن في تحقيرهم وتذكيرهم بدونيتهم. ولا زال مستوى الزيجات بين الطرفين لا يتعدى أصابع اليد على الرغم من الزمن الطويل الذي قضّته العوائل الكردية بين العوائل العربية.
لم تعد المواجهة بين أطفال من كلا العرقين لا تتعدى التنابز بالألقاب؛ فللأكراد اليوم حظوة لم يحلموا بها في تاريخهم، وحكومة إقليم كردستان لم تعد ذلك الفصيل المسلّح الذي يقاتل من أجل حقوقه القومية؛ كردستان اليوم تعني "بيضة القبّان" في الموازنة للتصويت على القرارات المصيرية، ولا يكتمل النصاب من دونهم، فيما تظل "الأغلبية" العربية السنية - الشيعية تتقاذفها الأهواء العنيفة، فأكراد اليوم ليسوا أكراد الأمس، ولا يوجد حكيم بين أوساطنا ليفهم الإشارة!
اقرأ/ي أيضًا:
كتاب "موضوعات كردية سورية": وقائع وآفاق
الترجمة في اللغة الكرديَّة.. محاولة ردم الهوّة المعرفيَّة في زمننا الرّاهن