12-أبريل-2019

لم يقتصر الفصل بين الجنسين على المدارس إنما تظهر دعوات أحيانًا ليشمل الفصل حتى الجامعات (تويتر)

يمارس النظام التعليمي في العراق سياسة العزل بين الجنسين، كما لو أن المدرسة مركز للعزل الصحي، وتنطلق هذه السياسة من دعوى الحفاظ على أولادنا من الانحرافات الأخلاقية، خصوصًا في المرحلة المتوسطة والثانوية وما يرافقها من توتر جنسيّ بين الطرفين. وبهذه المقدمة تتحول مدارسنا إلى معسكرات ذكور ومعسكرات إناث، وينتظر الطرفان عقدًا من الزمن للّقاء مرّةً أخرى في المرحلة الجامعية بلهفةٍ وشوقٍ تتعدّى فرحة الوصول إلى الحياة الجامعية ومغزاها العلميّ. ثمّة كائن غريب اسمه الأنثى، سيحلّ ضيفًا في الحياة الجامعية، وسيتمحور فكر الطالب على فكرة مركزية، وهي متى يلتقي بهذا الكائن "الأسطوري"، فيتسابق كلا الطرفين للفوز بهذا "المغنم".

بدلًا من تعميق قيم الأخوة والزمالة بين الجنسين، اختارت المؤسسة التعليمية " أسهل" الطرق، وهو العزل

 معظم الشباب تم تحشية أذهانهم بقصص الجنس الساخنة وأساطير الفحولة التي تُحوّل جسد المرأة إلى بضاعةٍ جنسيةٍ فحسب، ليغدو الجنس هوسًا مريضًا، وهاجسًا لا يفارق ذهنية الشباب. لأنهم تم عزلهم في "معسكرات" تعليمية خشية أن تتلوّث أذهانهم بقضايا خارج أفق التعليم. وبدلًا من تعميق قيم الأخوة والزمالة بين الجنسين، اختارت المؤسسة التعليمية "أسهل" الطرق، وهو العزل. بينما لو تم الاختلاط من المرحلة الابتدائية، سوف تختفي، ربما، هذه العقدة المبالغ فيها، ذلك إن هذا الهوس ينطلق من فكرة العزل أساسًا، ولولا هذا الأخير، ربما، لاتخذت العلاقة بين الجنسين بعدًا آخر.

اقرأ/ي أيضًا: القطاع العام في العراق.. المحاصصة في التعليم الابتدائي أيضًا!

تعطينا هذه السياسة إيحاءً بالغ الدلالة مفاده؛ إن المراكز التعليمية يمكنها أن تتحوّل إلى أماكنَ للرذيلة. ولهذه الدعاوى ما يبررها ويؤيدها، لأنّها تنطلق من قيمٍ عشائريةٍ غائرة في وجدان الشخصية العراقية؛ فتقاليدنا المحافظة تساهم مساهمةً فعّالةً في تنشئة المرأة على ثقافة التأثيم بطريقةٍ غير مباشرة، وعوائلنا تخشى على بناتها من "الفضيحة".

إنّ "العار" الذي تجلبه المرأة لا يمكنه أن يقاس بعار الرجل، حتى وإن كان مدمنًا، و"نسونجي"، إذ يمكنه التغطية على أفعاله متى شاء، بينما تبقى المرأة مصدر الإثم الأول، فعليها أن تمشي منكّسة الرأس بدافع الحياء، ولا يجوز لها الاختلاط بالذكور عمومًا، وعليها كذلك أن تتمرن من هذه اللحظة على رهاب الذكر!.

هذه التقاليد المجحفة تمعن في امتهان كرامة المرأة، وتحولها إلى "دمية" جنسية، يُخافُ عليها من الذكور المتربصين، وتُعامَل بطريقة مُهينة، ولا يحق لها الاختلاط بين الذكور، وأعني بها، الاختلاط في المرحلة المتوسطة والثانوية، ذلك الاختلاط القائم على أُسس الصداقة المشروعة الذي يبدد تلك الشيطنة المزعومة بين الطرفين. هذه الثقافة المشوّهة تساهم في تعزيز العنف تجاه المرأة وتسلب منها احترام الذات والقدرة على التواصل الاجتماعي بطريقةٍ صحيةٍ ومعقولة قوامها الاحترام المتبادل. وبخلافه قد تسعى بعض النساء إلى طرقٍ ملتويةٍ للتعويض عن هذا الاستلاب. ومعظم حالات الخيانة، التي يرتكبها الذكور براحة بال، تنطلق من هذا الجذر: أنا ذَكرٌ ومن بعدي الطوفان، فلماذا لا تعوّض بعض الطالبات هذا "النقص" من خلال تحويل الحياة الجامعية، على سبيل المثال، إلى علاقات متنوعة كردة فعل للعنف الرمزي الذي تتعرض له!. 

يجزم أحد الكتّاب الأصوليين، أن "دراسات واقعية أكدت فشل تجربة الاختلاط نتيجة السلبيات التي أضرت بالحياة الاجتماعية وخلفت رواسب لا يمكن معالجتها بين عشية وضحاها"، ويعزّز أحكامه القطعية بما "أسفرت عنه التجارب المجتمعية في مختلف دول العام والتي أثبتت فشل التجربة بكل المقاييس وبمختلف النواحي". ينطلق الكاتب من خوفه على المجتمع من عواقب التعليم المختلط ويستغرب من "تبني تلك التجربة الفاشلة في مجتمعنا المتمسك بقيمه الإسلامية الفاضلة متناسين ومتجاهلين ما يمكن أن يصيب مستقبل أجيالنا من البلايا ويفتح أبواب الفساد والفتن والرذيلة". لقد تعزّز في وجدان الشخص المتديّن شيطنة الاختلاط إلى حدٍ مبالغ فيه، ومن من ضمن الأحاديث التي تعزز هذا الوجدان، الحديث المنسوب إلى فاطمة الزهراء الذي تقول فيه، إنها "لا ترى رجلًا ولا يراها رجل"، وقد أوضح الشيخ أسد محمد قصير، في لقاء له، ضعف السند لهذا الحديث، مستدركًا "ولكنّه موعظة أخلاقية لا بأس أن تستفيد منها النساء"! 

وللمرجع الشيعي السيد كمال الحيدري كلام مفصّل عن هذا الحديث، لضعف سنده من جهة، ولتعارضه مع الواقع واستحالة تطبيقه، خصوصًا أن فاطمة الزهراء خطبت بين المسلمين، وكذلك زينب بنت علي بن أبي طالب خطبت في مجلس يزيد بن معاوية.

بالطبع لا يعني هذا أن التشريع الإسلامي يتوقّف على هذا الحديث، بل جوهر الموضوع قد يتعلّق بالخلوة المحرمّة، والإسلام سمح للمرأة من مزاولة أعمالها شريطة عدم الوقوع بالخلوة غير الشرعية، والاختلاط ليس خلوة؛  فهناك كادر تدريسي من كلا الجنسين، ومساحات مفتوحة في المدارس، ولا ننسى، إن المدرسة ليست "مبغى"، ولا توجد فيها دهاليز ضيّقة تمكّن الطرفين من الاختلاء، مضافًا إلى أن الاختلاط لا يعني الاحتكاك المباشر، بل يعني أن الجنسين يتعلمون سويةً في قاعة الدرس أمام مرأى الكادر التدريسي. أعتقد أن مفهوم " الاختلاط" مفهوم مضلّل، ذلك أن دلالته ليست واضحة بما يكفي؛ هل المقصود هنا هو الاحتكاك المباشر بين الجنسين؟، هل يعني " الخلوة"؟، أم يعني المشاركة في مدرسة واحدة ضمن مقاعد مخصّصة للجنسين كلُّ على حِدة؟.

المشاركة بين الجنسين ستساهم في التقليل من القيم القبلية المستبدة ونظرتها الظالمة تجاه المرأة وتنتهي من العقد المستفحلة بينهما

أتصوّر أن المشاركة بين الجنسين لتداول الدرس لا يشجّع على الانحراف، بل قد يكون العكس هو الصحيح. كل ما في الأمر أن تراعى ظروف المرحلة العمرية - المتوسطة والثانوية -  بالاعتماد على سياسة تربوية وإدارية وأمنية منضبطة، وتعميق حسّ الأخوّة والزمالة بين الطرفين، وبدلًا من المنافسة بين الجنسين، ستتحول هذه المشاركة إلى مساهمة في التقليل من القيم القبلية المستبدة ونظرتها الظالمة تجاه المرأة، وتنتهي العقد المستفحلة بين الجنسين، ومن ثمّ سيكتشف الطالب في المرحلة الجامعية أن المرأة كائن بشري، يمكنها أن تكون أختًا أو زميلة أو زوجة.  فربما سنشهد جيلًا يحترم المرأة في السرّ والعلن!.

 

اقرأ/ي أيضًا: 

الجامعات العراقية بين الإهمال والوزراء المسيسين

اللغة العربية في العراق.. من أبي الأسود الدؤلي إلى "أبو مازن"