27-أكتوبر-2015

عراقية من الموصل في مخيم الخضر (Getty)

في أواخر حزيران/ يونيو 2014، أحكم  تنظيم "الدولة الإسلامية في العراق والشام"، أو "داعش" على نحو ما شاعت تسميته، سيطرته على الموصل ثاني أكبر المدن العراقية، من دون أن يواجه مقاتلو التنظيم مقاومةً تُذكر. عشرات الألوف من جنود الجيش العراقي لاذوا بالفرار، تاركين خلفهم عتادهم وأسلحتهم "غنائم" سهلة في يد "المجاهدين". ليعلن بعدها أبو بكر البغدادي عن قيام "دولة الخلافة الإسلامية" وينصّب نفسه "خليفة" على المسلمين.

كيف استطاعت ميليشيات محدودة القدرة، من حيث العتاد والتنظيم والتدريب، أن تحقّق ما عجز عنه "جيش نظامي"؟

في التطورات اللاحقة، وتحديدًا بالتزامن مع نهاية العام الأول من عهد "الخليفة إبراهيم"، كان لافتًا ما تعرّضت له قواته العسكرية من هزائم متلاحقة أدت إلى انحسار سلطته عن العديد من المناطق. في سورية أمام التقدّم السريع للوحدات الكردية -جلّها تابع لحزب الاتحاد الديمقراطي (PYD) الامتداد السوري لحزب العمال الكردستاني (PKK)- إلى جانب عدد من كتائب الجيش الحر المتحالفة معها. وكذلك في العراق، مع تقدم "جيش الحشد الشعبي" في بعض القرى والبلدات، و"البيشمركة" الكردية في بعضها الآخر. ومعلومٌ أن هذه كلها مجموعات عسكرية غير نظامية، "ميليشيات".

فكيف، إذًا، استطاعت ميليشيات محدودة القدرة، من حيث العتاد والتنظيم والتدريب، أن تحقّق على الأرض ما عجز عنه "جيش نظامي"، أشرف على تدريبه خبراء أمريكيون، واستنزف موازنة العراق لأكثر من عشر سنوات تلت الغزو الأمريكي له عام 2003؟!

جانبٌ من الإجابة عن السؤال كشفته الفضائح المدوية التي أعقبت سقوط رئيس الحكومة العراقية السابق نوري المالكي، حول الفساد المهول في عهده، خصوصًا في وزارة الدفاع وفي القوات المسلحة التي كان المالكي قائدها العام والممسك الفعلي بمفاصلها. تحدّثت الأرقام الرسمية عن آلاف الأسماء الوهمية لجنود غير موجودين أصلًا، ولآخرين موتى، ويتقاضى هؤلاء ملايين الدولارت كرواتب شهرية، عدا عن مبالغ طائلة يُفترض أنها أُنفقت على تدريبهم وتجهيزهم. إضافة إلى الحديث عن صفقات أسلحة بيعت مرارًا، ومنها ما لم يُسلّم للجيش أبدًا. واليوم، تعود حكايا فساد المالكي إلى الواجهة مع تسليط الإعلام الضوء عليها مجددًا، بعد انكشاف مزيد من التفاصيل حولها، كصفقة شراء الآلاف من سيارات الدفع الرباعي من طراز "تويوتا"، مثلًا، آلت إلى مقاتلي البغدادي بيسر وسهولة.

على أنّ فساد المالكي، "عامل إيران" في العراق، لا يفسّر وحده انهيار الجيش العراقي بتلك الطريقة المخزية أمام "المجاهدين". إذ لا تقلّ أهمية "المحاصصة الطائفية"، التي وضعها الأمريكيون كقاعدة بني عليها "الجيش العراقي الجديد"، بعد غزوهم العراق وإسقاط نظام صدّام حسين، حيث أصبحت نسبة (60 % شيعة، و25% سنة، و10 % أكراد، و5 % لباقي الطوائف)، التي وضعها الحاكم الأمريكي للعراق، أساسًا لتشكيل هذا الجيش.

حال التحاصص الطائفي دون نشوء هوية وطنية جامعة، تبنى عليها العقيدة القتالية للجيش العراقي

وإنّ ذلك، إلى جانب السياسات الطائفية والإقصائية تجاه السنة في العراق، كنتيجة لهيمنة النفوذ الإيراني على الحكومة، دفع بأعداد كبيرة من الضباط والجنود السنة في الجيش العراقي السابق إلى الالتحاق بتنظيم البغدادي، حتى غدت أهمّ مفاصل "الدولة الإسلامية" بيد بعض من كانوا قادة عسكريين وأمنين في جيش صدّام المنحلّ. إلى ذلك حال التحاصص الطائفي دون نشوء هوية وطنية جامعة، تبنى عليها العقيدة القتالية للجيش. فكان من الطبيعي أنّ الناتج لم يكن سوى تجمعات مهلهلة تمزقها الطائفية وينهشها الفساد، لا تحمل من صفات الجيش إلا اسمه وزيّه.

هكذا، فإنّ المجاميع الطائفية الفاسدة التي قيل أنها "جيش العراق الجديد"، لم تصمد أمام "جهاديين" متمرّسين ذوي عقيدة صلبة وخبرات قتالية جيدة، تسبقهم أنباء إفراطهم في الإرهاب والتوحّش، ويديرهم أصحاب عقولٌ معبأة بأوهام أيديولوجية تعيش خارج العصر ولا ترضى بديلاً عن "دولة الخلافة"، يعاونهم عسكريون سابقون يملؤهم الإحباط والرغبة بالانتقام.

 

اقرأ/ي للكاتب:

غزوة مانهاتن.. الجهاد في زمن العولمة

الثورات العربية بين التحرر والحرية