على الرغم من الدمار الهائل الذي طال مدينة الموصل، إثر عمليات تحرير المدينة، فقد باتت تمثل اليوم فرصة ذهبية للمستثمرين المحليين، وآخرين قادمين من كردستان، لتأسيس مشاريع مختلفة فيها، منتهزين اندفاع الموصليين نحو الحياة مجددًا بعد سنوات من الحكم المتشدد على يد عناصر الدولة الإسلامية "داعش"، حيث كان الموت هو المشروع الوحيد.
انتشرت المقاهي التي تقدم "الناركيلة" بشكل كبير في الموصل في الأشهر الماضية، لتمثل مركز جذب للشباب والفتيات
أبرز تلك المشاريع، تتمثل بالمطاعم والمقاهي التي تزداد على نحو مستمر، حتى بات لا يخلو منها أي من شوارع الموصل، بل أن "الشيشة أوالناركيلة" أصبحت تقدم حتى في المطاعم الشعبية التي تقدم الوجبات الخفيفة مثل "الفلافل"، لجذب شباب المدينة، الراغبين بنفث الدخان، بعد حرمان طويل.
اقرأ/ي أيضًا: التهريب والأتاوات في الموصل..هل هو الانهيار مجددًا؟
كان تنظيم "داعش" قد حظر خلال فترة سيطرته على المدينة التي استمرت من حزيران/يونيو 2014 وحتى تموز/يوليو 2017، التدخين بشكل صارم، مع عقوبات تصل حتى الإعدام لمن يضبط متورطًا بتهريب التبغ إلى المدنية، لكن ذلك لم يمنع مرورها وفق صفقات مع عناصر في التنظيم.
دخان من تحت الركام
في الجانب الأيمن من المدينة، حيث الدمار هو الأكبر في الموصل وعموم محافظة نينوى، يجتمع الشباب وسط شارع "خالد بن الوليد" شبه المدمر، داخل مقهى قديم متهالك لتدخين "الناركيلة" مقابل ألفي دينار.
يقول عمر حازم (16 عامًا) وهو صاحب مقهى "العباسي" في هذا الشارع لـ"الترا عراق" إن "أغلب الزبائن هم من شبان المنطقة، الذين يلجأون إلى مقهاه إلى جانب مقاهٍ أخرى، فهي المتنفس الوحيد لهم، حتى وإن كانت فقيرة ولا تنافس مقاهي الجانب الأيسر".
يستقبل حازم أيضا، مسؤولين محليين ومنظمات دولية ممن يعملون في الجانب الأيمن ويحاولون احتساء الشاي وهم يخططون لأعمالهم في المنطقة.
الأيسر.. دخان من شفاه رقيقة
عند العبور نحو الضفة الأخرى من النهر، يبدو شكل الموصل مختلفًا، فهناك أعداد كبيرة من المحال المفتوحة والمقاهي، تزهو بمظاهر الحياة الطبيعية وزحمة المتسوقين، على خلاف الجانب الأيمن، لكن ما يجمعهما هو انجذاب الموصليين نحو "الناركيلة"، حتى النساء منهم، حيث لم تكن تلك المشاهد معتادة في المدينة طيلة السنوات الماضية.
يقول علي خروفة، وهو صاحب مقهى "الفنار" في أيسر الموصل، افتتحه مؤخرًا، لـ"الترا عراق"، إن "المقاهي تعد من أكثر المشاريع درًا للأرباح، حيث يرغب أبناء المدينة بالترويح عن أنفسهم، بعدما عانوا الحرب على أبواب منازلهم".
التنافس يدفع أصحاب المطاعم والمقاهي، إلى تقديم خيارات متعددة لكسب الزبائن، كأصناف الطعام الغربي، والأنواع الفاخرة من "الناركيلة"، كـ "البابلية والبطة"، والثانية عراقية الصنع، كما يؤكد خروفة، مبينًا أن "الأنواع السورية منها تلقى رواجًا أيضًا في بعض أحياء الموصل، وجميعها تكسب الزبائن".
كما يشير، إلى أن "المقاهي تخصص أوقاتًا محددة للشباب تكون غالبًا في الليل، بينما تخصص أوقات النهار للعوائل والنساء الراغبات بالتدخين".
في داخل احد المقاهي وصلت سيدتان ورجل تبين فيما بعد أنهم يعملون لصالح منظمة الصحة العالمية، وقد قدموا في مهمة للتأكد من الوضع الصحي في الموصل.
تسعى نساء في الموصل إلى كسر التقاليد والعادات الاجتماعية التي يعدونها سببًا لـ "الدمار والقتل"
تقول ليزا غابريل وهي أمريكية الجنسية لـ"الترا عراق"، أنها سعيدة برؤية الموصل وهي "تحيا من جديد". وتضيف : "الناس يدخنون الشيشة والسجائر هنا بشراهة، رغم مضارها، يبدو أن همهم الأساس هو ممارسة الحياة التي منعهم جنود داعش من ممارستها في السنوات الماضية، بعد أن خرجوا من الحرب توًا".
جلسنا مع ثلاث فتيات في مقهى بمنطقة الغابات المجاورة لنهر دجلة في الجانب الأيسر، تحدثن لنا عن محاولاتهن الحثيثة لكسر التقاليد والعادات الاجتماعية التي "لم تجلب سوى الدمار والخراب والقتل".
تقول لينا علي وهي طالبة جامعية لـ"الترا عراق"، إنها "استغلت فرصة العطلة الجامعة للخروج مع صديقاتها الى المقهى، عندما يمنع دخول الشباب في النهار، حيث أن كل شيء مختلف خارج أسوار المنزل والجامعة والعمل"، فيما ترى في هذه الأوقات "حياة أخرى للتعرف على صديقات جدد ومناقشة الأمور الشخصية والعامة، فضلًا عن التدخين وتناول العصائر".
الحكومة المحلية في نينوى من جانبها، لا تعرقل افتتاح مزيد من المقاهي للترفيه والتدخين، دون شروط محددة، فيما تجري بعض فرق دائرة الصحة جولات على بعض تلك المقاهي، بالتعاون مع إدارة مدينة الموصل.
مشاريع رابحة.. وأجور مغرية
ومع فقدان المدينة لفنادقها وقاعتها المخصصة للاجتماعات والندوات، فإن مقاهي المدينة، باتت تمثل أماكن مناسبة لعقد تلك النشاطات في الجانب الأيسر من المدينة، بل أن الأمر تعدى ذلك إلى فتح وسائل إعلام لمقاه باسمها.
يقول الصحفي عدي الأعظمي لـ"الترا عراق"، أنه من منطلق التجديد وفتح أفاق مميزة، قرروا هو وزملاؤه في إذاعة "وان أف أم" فتح مقهى يحمل نفس الأسم، وفعليًا شارفوا على إنهاء المشروع في الموصل لافتتاحه قريبًا.
من جانبه يعزو الناشط المدني بندر العكيدي، اندفاع الموصليين نحو المقاهي والتدخين، إلى "الفراغ بسبب عدم وجود فرص عمل"، فيما يؤكد أن "تلك المقاهي أصبحت فرصة كبيرة لأصحاب المشاريع لاستغلالها، كتجمعات للمنظمات والجمعيات إضافة الى أصحاب رؤوس الاموال، حيث تعتبر من أفضل المشاريع".
كشف العكيدي، أن كلفة انشاء واحدة من المقاهي الجيدة في الموصل، يكلف اليوم، نحو 50 مليون دينار، حيث تقدم تلك المقاهي الطعام والعصائر، فضلًا عن "الناركيلة"، لكنه رأى أن "تلك المشاريع لن تزيد من ثقافة الناس أو تغير حياتهم إلى الأفضل، على الرغم من مردودها المالي الجيد والاندفاع نحوها".
مع النركيلة، تقدم على الأغلب الأطباق السورية من الشاورما والحمص والمتبل وغيرها، كما تقدم وجبات إيطالية مثل البيتزا، واللازانيا، إضافة الى الإسكندر التركي، حيث يرغب الموصليون بتلك الوجبات التي تأثروا بها خلال فترة النزوح، الى كردستان وتركيا وسوريا.
اقرأ/ي أيضًا: تحت الموصل القديمة.. هكذا تعامل جثث جنود البغدادي
تقدم مقاهي الموصل تلك الخدمات مقابل أسعار تعد الأرخص من بين أغلب مدن البلاد، وحتى الدول المجاورة، حيث يراعي أصحابها الوضع الاقتصادي الذي تمر به المدينة وأبناؤها.
الأسباب.. والطموح
تقول أستاذة الاجتماع السياسي في جامعة الموصل، ليلى المولى لـ"الترا عراق" إن "انتشار المقاهي في الموصل، وانتشار التدخين بشكل مفرط، هو ظاهرة سلبية ومؤذية لا تعطي للمدينة أي مظهر ثقافي، كما أن التدخين من دون رقابة ولجميع الفئات، هو بمثابة موت بطيء من الناحية الصحية".
يحذر مختصون من ظاهرة الاندفاع نحو التدخين في الموصل ويطمحون إلى إنشاء مكتبات ومراكز ترفيه
توضح المولى، أن "بعض الشباب وحتى البنات باتوا يعتبرون التدخين، جزء مهم من الحياة المتحضرة و(البرستيج)، لكن هذه التبوغ ليست إلا محرقة للمال والصحة"، فيما تعد انتشارها بهذا الشكل الكبير، "ردة فعل" بعد حظرها من قبل تنظيم "داعش" خلال مدة سيطرته على المدينة، فضلًا عن التأثر بالمناطق التي نزح إليها الموصليون وقضوا أوقاتهم فيها بين المقاهي، ما جعلهم يحاولون نقل تلك التجرية إلى المدينة.
تتمنى المولى، أن تكون هناك مشاريع ترفيه مثل المكتبات ودور السينما وعرض الأزياء، بدلًا من التركيز فقط على المقاهي والمطاعم. لكن بالنسبة إلى الشباب الذين ينفثون دخانهم من بين أنقاض الجانب الأيمن، فإن هذا يبدو بعيد المنال، حيث تحتاج المدينة، إلى إزالة آثار الدمار الهائل وإحياء المشاريع الحيوية قبل التفكير بدار للسينما أو للأزياء، بحسبهم.
اقرأ/ي أيضًا:
طريق الكحول إلى العراق.. تجارة تحكمها ميليشيات دينية وأحزاب سياسية