05-سبتمبر-2015

من فيديو لـ(صادق الفراجي/ العراق)

ينشغل الناس في بغداد بالعمل. يُغرقون أنفسهم فيه، يعملون في أكثر من عمل واحد بدوام كامل. قد يكدّ الساكن في بغداد لأكثر من 14 ساعة في اليوم، ويتمتع بعطلة وحيدة هي يوم الجمعة. من يسمع هذا قد يظنّه تهويلًا أو خُرافة، فالبلد الذي يُشرِّع الموت على شاشات التلفاز، يخيّل للمرء أن سكّانه يلتزمون منازلهم، ولا يفعلون شيئاً سوى انتظار الحتوف القادمة لا مُحال.
لكن العمل حتف أيضاً.

وبالرغم من مساحة بغداد الكبيرة إلا أنّها تضيق على ساكنيها، يُضيِّق الجميع على الجميع هنا

يخشى العراقي الساكن في بغداد على حياته. يعبر المفخخات كعدّاء ماهر، ويمخر الأشهر الواحد تلو الآخر بصبر بعير. يخاف من المستقبل. فهذه المدينة التي عبرها الغزاة في "نزهات" خلّفت دماء، لا ثابت فيها، لا حياة مُستقرّة تتخللها. يَعدُّ البغدادي الذي يعمل هكذا نقوده ويخبئّها خشية حدوث طارئ: أزمة اقتصادية أو أمنية أو عائلية. يفكّر أغلب العاملين بالطريقة المضنية هذه.

وبالرغم من مساحة بغداد الكبيرة إلا أنّها تضيق على ساكنيها، يُضيّق الجميع على الجميع هنا. ثلاث سلطات في أحشاء اليوميات العراقية تتضامن فيما بينها أحياناً، وتتقاتل في أحايين كثيرة، وهي سلطات على العراقي التعامل معها كلّ حسب نفوذها وسيطرتها وسطوتها، إنها سلطات تتعارك فيما بينها من أجل إمساك المساحات وفرض النفوذ، يُريد جميع من يحمل السلاح أن يحتكر العنف، والحكومة، وهي الطرف الوحيد الذي من حقّه هذا الأمر، تقف متفرّجة، إن لم تُساعد على تكريس هذا الحال.

يقف البغدادي وسط هذا فاغرًا فاهه، من يظلّ مستقلًا لن يطول بقاؤه. يجب عليه الانضمام إلى جهة لحماية نفسه: عشيرة أو ميليشيا أو حزب. هذه الخيارات الوحيدة المُتاحة، والانتماء إلى العشيرة هو الأقل كُلفة، لكنه الأكثر عصبيّة، وهو أيضاً مضيعة للمال وللجهد. فالانتماء للعشيرة له ضريبتان، تتمثّل الأولى بدفع المال مقابل كل ما يرتكبه أبناء العشيرة من أخطاء بدءًا من القتل وصولًا إلى حوادث الاعتداء والتحرّش؛ وبالمقابل هناك الضريبة الأخرى المتمثّلة بالوقوف مع ابن العشيرة ظالمًا كان أو مظلومًا، وهنا بالتحديد قد يُدفع المرء إلى حمل السلاح وخوض عراكات لا ناقة له فيها ولا جمل.

والحال هذه، تبدو قوّة العمل هنا أحّد أكثر الحتوف بشاعة، فهو ليس جهدًا للوصول إلى السعادة وضمان المستقبل، وإنما للتحوّط من القادمات من حتوف وعراكات و"صناديق الضمان" العشائرية التي أخذت أموالاها تنافس ودائع المصارف الأهليّة في العاصمة، خاصّة مع انمحاء الرواتب التقاعدية للعاملين خارج مؤسسات الدولة، وضعف القطاع الصحي العام، وغياب مؤسسات التأمين.

لم تعد بغداد، وهذا حالها، سوى ريف كبير. مدينة مأزومة لا أحد يعرف كيف وعلى هوى من. لا يعرف الساكن في بغداد مستقبله فيها، فهي مدينة مُعدّة للفوضى، لحروب السلطات المتعددة في أي لحظة، وهي أيضًا مدينة تعبث فيها الإشاعات، ويتحوّط أهلها مع كل إشاعة تجتاحها.

وكل هذا الأسى ينسحب على شكل بغداد العمراني، فهي تتحوّل إلى خراب عامًا إثر عام، تغزوها فوضى البناء السريع بألوانه البشعة، بينما تخبو ملامحها التاريخية يومًا بعد آخر. بات البغدادي ينسى المطارح وشكلها السابق، هو يتذكّر أنها كانت جميلة، لكنه يجهد عقله من أجل تذكر ما كانت عليه. بغداد أيضاً حتف كبير.