09-مايو-2022
تجميد الفصائل

على السطح، ثمّة عدة مبادرات تحاول حلحلة الانغلاق السياسي، أما خلف الكواليس، فيدور نقاش موازٍ يتعلق بعمق الخلاف حول فكرة إشراك الفصائل بسلاحها في الحكومة المقبلة.

 

الراهن حتى الآن

يمكن إيجاز المبادرات الحالية بثلاث مسارات، الأول هو ما يتبناه الإطار التنسيقي الشيعي، الذي يضم الفصائل الأقرب إلى إيران، ويطالب بإشراك جميع قواه في الحكومة المقبلة، أو حل البرلمان وإعادة الانتخابات، بعد أن مُنيَ بخسارة كبيرة. وتأمل أطراف في الإطار، مثل قيس الخزعلي، بأن تساهم إعادة الانتخابات بتدارك الخسائر التي لحقت بالمعسكر الحليف لإيران.

تبتعد نصوص المبادرات عن جوهر الخلاف الذي يتمحور حول سؤال: هل البلاد أمام عملية سياسية للتنافس بالخطابات أم أنّها ضمن معادلة سباق تسلّح بين الفصائل

المسار الثاني، هو ما يمثله التحالف الثلاثي بزعامة مقتدى الصدر ومسعود بارزاني ومحمد الحلبوسي وخميس الخنجر، والذي يضم غالبية أعضاء البرلمان، بنحو 180 نائبًا من أصل 329.

يتولى الصدر حتى الآن الحديث نيابة عن حليفيه، وقد اشترط حصر سلاح الفصائل بيد الدولة، منذ الساعات الأولى لإعلان نتائج الانتخابات، وبعد أن أخفق الثلاثي بجمع العدد المطلوب لنصاب جلسة انتخاب الرئيس 3 مرات (220 نائبًا)، فسح المجال لخصومه في الإطار التنسيقي لتشكيل الحكومة، وحين لم يفلح الإطار، تقدم الصدر بمبادرة أخرى عرض بموجبها على المستقلين الحصول على منصب رئاسة الوزراء، شريطة أن يشكلوا تجمعاً يضم 40 مستقلاً، ينضم إلى الثلاثي، ويُكمل نصاب جلسة انتخاب الرئيس.

الصدر المالكي

وبين الخيارين، تتقدم أطرافٌ من هنا وهناك بمبادرات هجينة، من بينها ما جاء على لسان مقرّبي عمّار الحكيم، المنضوي في الإطار التنسيقي، فيما يقول المستقلون، إنهم بصدد إعداد نسختهم الخاصة والمعدلة التي تعبر عن رؤيتهم للحل، وذلك بعد أن عقدوا أول وأكبر اجتماع على مستوى عدد المستقلين المشاركين، فجر الإثنين.

 

بعيداً عن التسوية.. قريباً من المشكلة

حتى الآن، تأخذ كل الأفكار والمبادرات، طابع التسوية، وشد الحبل، والمناورة، والمُغالَبة، لكنها تحوم حول أصل الإشكال، ولا تخوض فيه، والأصل هنا، هو ما جاء في الكلمة الأولى لزعيم التيار الصدري مقتدى الصدر، بعد ساعات من إعلان النتائج، حين قال "من الآن فصاعدًا.. يجب حصر السلاح بيد الدولة ويُمنع استعماله، وإن كان ممن يدعون المقاومة"، وهو خطاب واضح لجماعات على صلة بالمرشد الإيراني علي خامنئي، مثل عصائب أهل الحق، وجند الإمام، وكتائب حزب الله، وكتائب سيد الشهداء، وكتائب الإمام علي، وحتى منظمة بدر بزعامة هادي العامري، التي يعتبرها الصدر الأقرب له.

وتدفع معادلة السلاح، أطرافًا سياسية واجتماعية عديدة إلى حافة اليأس من إمكانية المشاركة في العملية السياسية، كما في حراك مقاطعة كبير سبق انتخابات العام 2021، قال منظموه حينها، إنّهم ليسوا قادرين على التنافس مع فصائل سياسية تملك الطائرات المسيرة والقاذفات والمسدسات الكاتمة للصوت، وتتمتع بإمكانية استخدامها سياسيًا دون رادع، ويُمكن في هذا الإطار الانتباه إلى القرار الذي توصل إليه أحد أهم الأحزاب على الساحة اللبنانية، وهو تيار المستقبل برئاسة سعد الحريري، والذي قرر مقاطعة انتخابات الخامس عشر من أيار/مايو المقبل.

وحتى الآن، يبقى جوهر الخلاف بعيدًا عن نصوص المبادرات، ويتمحور حول سؤال، هل البلاد أمام عملية سياسية للتنافس بالخطابات، أم أنّها ضمن معادلة سباق تسلّح بين الفصائل.

وقد تحدد إجابة هذا السؤال، حتى سلوك قوى مدنية أخرى، ربما تفكر جديًا بالتعامل مع واقع الحال، والتخلي عن بعض مبادئها، من أجل التمكن من المنافسة السياسية التي تبدو مستحيلة تحت ظل البنادق.

وخلال الأشهر الستة الماضية، أخذت الحوارات بين الطرفين (الإطار والتيار) جانبين، الأول مُعلن وهو ما كان يظهر على صفحات المبادرات التي لم تسفر عن شيء، والآخر خلف الأبواب الموصدة، وهي ما لا يتم الإعلان عنها رسميًا، بل تترشح منها معلومات شحيحة، كالتي أعلن عنها تيار الحكمة (مقعدان) في وقت مبكر، حين قال إنه تلقى عرضًا من الصدر، بالحصول على حصة وزارية تساوي حصة 30 مقعدًا برلمانيًا.

تتحدث آخر المبادرات غير المُعلنة عن نقاش جدي بين الصدر وزعماء الإطار لتكرار فكرة صدرية قديمة عنوانها "التجميد"

أما زعيم جماعة عصائب أهل الحق، فقد كشف عن عرض قدّمه الإطار للصدر، يتنازل بموجبه حلفاء إيران عن معظم حصصهم الوزارية، مقابل أن يوافق الصدر على التخلي عن فكرة التحالف العابر للطائفية، وأن ينقل ملف اختيار رئيس الوزراء، إلى "البيت الشيعي" وليس "التحالف الثلاثي" الذي يضم قوى كردية وسنية.

الخزعلي

ومن بين التسريبات أيضًا، ما أعلنته شخصيات إطارية، عن عرض قدمه الصدر، بأن تنشطر قوى الإطار إلى جزءين، وينضم 40 نائب من الإطار إلى الائتلاف الحكومي، فيما يبقى الآخرون في المعارضة، وجميع ما سبق، كان ضمن حوارات تجري بين وفود ووسطاء، لا تُعلن رسميًا.

 

تجميد الفصائل

أما آخر المبادرات غير المُعلنة، فهو ما تتحدث عن مصادر قالت إنّ الطرفين يناقشان جديًا مقترحًا بتكرار فكرة صدرية قديمة، عنوانها "التجميد".

ويقول مصدر مطلع على جولة حوار جرت خلال الأيام العشرة الماضية، أن وسيطًا بين الإطار والتيار، تقدم بمقترح لتجميد عمل الفصائل المسلحة الموالية لإيران لمدة 6 أشهر، وأن الفكرة وصلت إلى الطرفين رسميًا، ولم تواجه برفض حتى الآن، غير أن نقاشًا اندلع على مستوى مسؤولي الخط الثاني، حول كيفية تطبيق قرار التجميد أو إعلانه بطريقة لا تبدو هزيمة أخرى لحلفاء إيران. 

وكان الصدر، أول من استخدم فكرة "التجميد" عام 2008، حين تعاظمت الضغوط الشعبية المطالبة بحلّ فصيل "جيش المهدي"، إثر تورط عناصره بانتهاكات إنسانية، وسيطرته على معظم مدن الوسط والجنوب ذات الغالبية الشيعية، بدعوى مقاومة الاحتلال الأميركي.

وقرر الصدر صيف العام 2007، تجميد جيش المهدي، لمدة 6 أشهر، وسحب عناصره من المدن.

وقبل قرار التجميد، كان فصيل "جيش المهدي"، يواجه تذمرًا شعبيًا، يطابُق ما تواجهه الفصائل المسلحة في هذه المرحلة.

وتسبب الاختفاء المفاجئ لعناصر الفصيل المسلح، بعودة الحياة الاجتماعية إلى معظم المدن، كما حصل الصدر على استراحة من الضغوط التي كانت تتسبب بها سلوكيات فصيله المسلح، وجدد الصدر في وقت لاحق، تجميد "جيشه" مرات عدة.

تقدم طرف وسيط بمقترح "تجميد الفصائل المسلحة" كحل وسط بين ما يطالب به الصدر ومخاوف الفصائل من الاستهداف

ومن جانب آخر، يُمكن اعتبار لحظة إعلان تجميد "جيش المهدي"، نقطة الشروع الأولى في الولادة الجديدة للتيار الصدري، حيث مرّ الفصيل بمراحل تأهيل دامت سنوات، قادته للتحوّل من أحد أكثر الفصائل المتهمة بجرائم التطهير الطائفي، إلى الفصيل المفضل لدى سكان المناطق ذات الأغلبية السنية، حيث طالبت شخصيات محلية عدة مرات، بسحب قطعات الحشد الشعبي، واستبدالها بقوات من "سرايا السلام" الاسم الجديد لـ "جيش المهدي".

الحشد

وتدريجيًا، تحوّل الصدر إلى أبرز حليف للقوى السنية والكردية، وتمكّن من حجز مقعد الصدارة في "التحالف العابر للطائفية".

 

الفصائل تختبر نوايا الصدر

ويقول المصدر الذي اطلع على طبيعة مقترح التجميد، إن الفكرة التي تقدم بها وسيط بارز، تمثّل حلاً وسطًا بين ما يطالب به الصدر، وهو إنهاء السلاح السياسي، وبين مخاوف الفصائل من الاستهداف.

وقد عبرت الفصائل بالفعل، عن مخاوفها من أن إلقاء سلاحها، قد يقودها لاحقًا إلى السجون بتُهم الإرهاب، خاصة مع الاتهامات التي تطال كثيراً من قياداتها بالفساد أو جرائم القمع.

وبالنسبة لرعاة مقترح تجميد الفصائل، فإن استمرار هيمنة سلاح الفصائل على المشهد السياسي والميداني والاقتصادي ليس أمرًا يمكن التعايش معه في المرحلة المقبلة، ولذا يمثل قرار التجميد، مكسبًا نسبيًا قد يلمسه المواطنون، وهم يشاهدون مدنهم تتنفس من جديد، في مشهد مشابه للحظة انسحاب عناصر جيش المهدي من المدن.

ومن جانب آخر، يقول المصدر، إنّ التجميد، يمثل مرحلة أولى، لبناء ثقة بين الطرفين (الإطار والتيار) حيث سيُمكن تجديد فترة التجميد مرة أو مرات أخرى، كلما عزز الطرفان، الثقة بينهما، وتمكنا من تبديد مخاوف الاستهداف.

وبالنسبة للنسخة الأولى، أي قرار تجميد "جيش المهدي" فقد ضحى الصدر ببعض أتباعه المطلوبين للقضاء، حيث يقبع كثير منهم في السجون حتى هذه اللحظة، بينما فرّ العشرات إلى إيران أو لبنان، أو سوريا، التي قُتِل فيها بعض عناصر "جيش المهدي" بعد أن شكلوا فصائل دعمت القوات السورية النظامية.

ويقول المصدر إنّ تصعيد بعض الفصائل خطاباتها ضد وجود القوات التركية شمال البلاد، يأتي في سياق المناورة مع مقترح التجميد، حيث تحاول فصائل عدة إثبات وجود حاجة لسلاحها في هذه المرحلة، كما في حديث الخزعلي، عن أن ثمة قوات أمريكية مازالت موجودة داخل البلاد، وتحتاج إلى فصائل لمقاومتها.

تضمن قرار تجميد "جيش المهدي" التضحية ببعض أتباع الصدر من المطلوبين للقضاء وهو سلوك قد يضطر إليه زعماء الفصائل لترميم القاعدة الشعبية

غير أن اتجاهًا آخر داخل الفصائل، يرى أن ضريبة الاستمرار في المراهنة على السلاح، باتت أكبر من المكاسب، وأن معسكر حلفاء إيران، بحاجة إلى خطة إعادة تأهيل على المستوى الشعبي، على غرار ما مرّ به التيار الصدري بين عامي 2008 وصولاً إلى 2022، وفقًا لما ينقله المصدر عن الوسيط صاحب المقترح.

ويحتفظ الصدر حتى الآن بفصيل يفوق تعداده نحو 100 ألف مسلح، كما يقول مسؤولون صدريون، إلاّ أنّه أقل احتكاكًا وانتشارًا في المدن من بقية الفصائل، وقد سبق أن عرض الصدر أن يكون أول مَن يحلّ فصائله، لكنه تراجع لاحقًا وقال إنه سيكون آخر مَن يحل فصائله، بعد حلّ الجماعات المسلحة الأخرى.