01-أبريل-2020

فئات كبيرة من العراقيين غير مهتمين بـ"فيروس" كورونا" (Getty)

في واحدة من أطرف المواقف التي رآها المارة بمنطقة جميلة الثانية بعد أسابيع من بداية حرب إيران؛ دوّت صافرات الإنذار وإذا بجدي ينبطح في السيان. لم تكن المنطقة قد بُلّطت بعد، وكان جدي وجدتي في مشوار ما. لم يتفاعل عشرات المارّة والباعة مع صافرة الإنذار، لكنّ جدي فعلها وانبطح في السيان آخذًا وضعية الجندي في معركة. فعلها وكأنه يسمع صافرات الإنذار في مايس عام 1941 يوم كانت الطائرات البريطانية تقصف الجيش العراقي. فالرجل جندي عتيق، ويبدو أنه ممن ينفّذون القانون العسكري بشكل آلي، لهذا انبطح دون تردد حين سمع صافرة الإنذار.

 تزداد نسب الإصابة في البيئات الشعبية ببغداد بينما تتضاءل في البيئات الراقية

    لماذا تذكرته اليوم؟ تذكرته لأنني لاحظت استغراب المزدحمين على فرن الصمون وهم يرونني أضع كمامة وأقف على مبعدة منهم. اشتهى الأولاد الصمون بعد غياب عن وجباتنا البيتية منذ قرابة عشرين يومًا. أحد الواقفين عند الفرن نظر إليّ شزرًا لدرجة أنني كدت أسمعه يهمس لنفسه: شبيه هذا الزلمه أشو مسويها صدك! خجلت من نفسي وتخيلتني موضوعًا للتندر حين يعود المزدحمون إلى بيوتهم. الأحرى أنّ واضعي الكمامات يبدون أندر من الزئبق في شوارعنا. قد يظهر عضهم مكممين، لكنهّم أقليّة، أمّا الأغلبية فأظنهم لا يفكرون بوباء الكورونا، ولا يطرأ في ذهنهم تنفيذ توصيات العالم حول طرق الوقاية منه، ابتداءً من البقاء في البيوت، ومرورًا بما يسمّى "التباعد الاجتماعي"، وأخيرًا، وضع الكمامات وارتداء القفازات. الخلاصة إنه لا أشباه لجدي في مجتمعنا الراهن، أغلبهم يجهلون أو يتجاهلون خطورة العدوى ويمارسون حياتهم بعدميّة، أو لنقل بافتقار للإحساس بالمسؤولية تجاه أنفسهم والآخرين. إن هذا راجع، في الواقع، إلى القيود التي تقيّدنا بها الثقافة الاجتماعية. فنحن، الشرقيين عمومًا، تواصليون تأسرنا الروابط الاجتماعية التي تبدو مقدسة. هل يتخيّل أحدنا نفسه وهو يقابل صديقًا حميمًا أو قريبًا لم يره منذ أشهر دون أن يهرع لعناقه وتقبيله؟ "يا عيبة العيبة!". 

اقرأ/ي أيضًا: في حق الدفاع عن الناس

مؤكد أنّ المتحدرين من أصول ريفية يختلفون في هذه الخصيصة عن المتحدّرين من أصول مدينية. لهذا مثلًا تزداد نسب الإصابة في البيئات الشعبية ببغداد بينما تتضاءل في البيئات الراقية. وإذا كان مرجع هذا التفاوت تحكّم بعض القيم الاجتماعية بالبيئتين، إلّا أنه يعود أيضًا إلى مدى التزام الناس بالقوانين والتوصيات عمومًا/ وفي ظروف كهذه خصوصًا.

في حظر التجوال الحالي لوحظ الأمر بشكل جليّ؛ المناطق المتمدنة أكثر التزامًا بما لا يقاس من المناطق الشعبية، اليرموك أفضل من البياع، وزيونة أكثر التزامًا من منطقة الداخل. قيلت الفكرة مرات ومرات لدرجة أنّ أحد المسؤولين الصحيين أبدى تفاؤلًا في إمكان السيطرة على انتشار الوباء، لكنه بعد تجوال في بعض مناطق الكرخ الشعبية عاد ليعرب عن إحباطه وتشائمه. ولكي لا ننسى، ثمّة عامل آخر هو التفاوت في الكثافة السكانية بين الأحياء شعبية والأخرى الراقية، وهذا راجع إلى حجم البيوت ومساحاتها والفضاءات فيها، ومن ثم، حجم العوائل التي تسكنها. رغم هذا، لو التزم أهالي المناطق المتواضعة بالحظر وتنازلوا عن بعض قيمهم الاجتماعية التي تمنع فكرة التباعد الاجتماعي لكانوا قللوا كثيرًا من انتشار العدوى بينهم، وهذا يعيدنا إلى الفكرة الجوهرية؛ الوعي بالمخاطر المحدقة والتحرر مؤقتًا من تمكّن بعض القيم الاجتماعية هما الحدّان الفاصلان.

بالعودة إلى العينة التي مثّلها جدّي، ذلك الجندي الملتزم بشكل مبالغ به بقانون الانبطاح أثناء الغارات الحربية، فإنّ أحدًا لن يتخيل وجود مثله هذه الأيام إلّا على أضيق نطاق. الغالبية العظمى "حاسرون"، أنوفهم وأفواههم مكشوفة للريح والفيروسات، ولا يأبهون لصافرات الإنذار المحذرة من هجوم الكورونا. يتزاحمون عند الأفران وفي الأسواق، يتعانقون ويتبادلون خراطيم الأراجيل وكأن شيئًا لم يكن، فإذا ذكرتهم بالوباء وخطورته أجابوك بصوت عدميّ: يمعود خليها على الله.. هي إذا الكورونا خلت عقلها وياك تفيدك كمامة.. ربك الحافظ.

 

 

اقرأ/ي أيضًا:

الصحة في تحذير "يائس" لسكان الكرخ: أكفانكم نسجت وأنتم لا تشعرون

تحذير من "كارثة".. طبيب يتوقع حصيلة مرعبة لضحايا "كورونا" في العراق