نحن نشتم الناس يوميًا، ونقول إنهم جهلاء وعاطفيون وتقليديون، لا بأس فلنشتم الناس إذن، لكن علينا أن نسأل: ما هي الخطوة القادمة؟ وبما أنه لاوجود لخطوة قادمة ولا حتى سابقة، إذن لا جديد في هذا السعير الشتائمي والتهكمي، سوى أنه كسابقاته تفريغ لشحنات عاطفية هي الأخرى، ببساطة لا جدة فيما يحصل الآن كما هو سابقًا، وهذا هو معنى أنني لم اتطرق لشيء يخص فيروس كورونا، وأسئلته الثقافية والسياسية ولاقتصادية عندنا، كل الأطراف الحاضرة على مسرح الشتم والتهكم تعيش طقس التطهير البدائي هذا، الاختلاف الوحيد، ربما أن لكل طرف هياكله المعرفية الخاوية من المعنى، يدخل متسلحًا بها لا من أجل شيء سوى السعير والاحتراق ضمن طقوس التطهير السالفة.
المفاهيم النظرية من قبيل المساواة والحرية والأخلاق وتقبل الآخر التي يُشتم الناس يوميًا من أجل تبنيها، ليست مفاهيمًا قَبلية
أنا اسأل إن كان للناس رأيًا عقلانيًا فيما حصل لهم في الماضي وفيما يحصل لهم الآن، وهذا ينسحب أيضًا على خيارات الناس السياسية حتمًا، وما هو الاختلاف بين استنتاجاتهم لماهية الكوارث والأزمات قديمًا وحديثًا، وسؤالي هذا الغرض منه تحديد الحدود بين ما تفكر به الناس وما تفكر به المؤسسات والبُنى التي تحكم مخيال هذه الناس!
اقرأ/ي أيضًا: إرث الاستبداد الثقيل
علينا أن نجد تحديدًا أو فصلًا بين هذه اأقطاب الموضوعية أولًا، قبل الشروع في إطلاق الحكم. في إحدى محاورات الفيلسوف السلوفيني المعاصر سلافوي جيجك أثار موضوع يخص جدوائية ترتيب إمكانات عقلانية من الأفراد. يقول بما معناه أنتم تطالبون الناس بالحفاظ على البيئة والنظافة العامة والتوفير.. الخ، ثم يستدرك ويسأل ثم ماذا تريدون بعد ذلك؟ وهذا كما اعتقد ليس استدراكًا عدميًا يضمر عدم جدوائية الخطاب، قدر بيان حقيقة واضحة على مر كل العصور، وهي أن وظيفة الناس هي الاستمرار في العيش فقط، أما ما يعتقدونه في مخيالهم الثقافي والأخلاقي والديني والسياسي، فهو مخيال المؤسسة وما تعتقد به، وضمن هذا السياق، يفتتح مونتسيكيو إحدى جمهورياته بجملة لا يمكن الإغفال عنها، حيث يقول إن "قوة المبادئ تجر خلفها كل شيء"، فالفضيلة التي هي معيار الجهمورية الأخلاقي عند مونتسيكيو ستفسد إذا ما فسدت هذه الحكومة والعكس صحيح حتمًا، فهذا المبدأ الذي يجر خلفه كل شي كما يقول سيفسد كل شيء في حياة الناس إذا مافسدت الدولة، وبالتالي فحتى القوانين فيها ستصبح فاسدة، وترتد ضدها، باختفاء شرعية المبدأ التي تقوم عليه شكل الدولة ألا وهي الفضيلة.
إن المفاهيم النظرية من قبيل المساواة والحرية والأخلاق وتقبل الآخر التي يُشتم الناس يوميًا من أجل تبنيها، ليست مفاهيمًا قَبلية، ببساطة؛ فإن مفاهيم التحديث النظرية ليست مفاهيم نستوحيها مثلما نستوحي التقليد الذي هو موجود دقَبْليّ، بمعنى أن التقليد له وجود سابق وهيمنة على المخيال الجمعي بحيث أن عملية استدعائه سهلة حتى نوظفها بالتعامل مع شتى الظروف والمتغيرات التي يمر بها الأفراد والجماعات، مفاهيم التحديث النظرية هذه حتى تكون فاعلة عليها أن تتحول إلى متخيل اجتماعي وثقافي وسياسي، وهذه حرب نقدية بأدوات معرفية نخوضها مع بنية التقليد من جهة ومؤسسات السياسة من جهة أخرى، لا حرب شتائم وسعار نتطهر من خلاله داخل مواقع التواصل الاجتماعي، ثم بعد ذلك نعود لنمارس حياتنا الطبيعية منتشين من هذ الصخب.
ضمن هذ السياق علينا أن نسأل مرة أخرى: كيف تُحترم قرارات الدولة وهي ليس لها أي وجود اعتباري؟ وهذا السؤال لا يثير دعوى التمرد قدر صناعة تحديد لماهية الدولة من أجل تعريفها، فحتى يتحول خطاب السلطة وقراراتها إلى فعل مادي لا ينضوي على ظلم وقمع، أو حتى ربما استشعار لا جدوائية هذا كله من قبل الأفراد والجماعات. يجب أن تتحول فكرة الدولة الحديثة (أهم اختراع إنساني) بكاملها إلى وجود اعتباري داخل مخيال الأفراد والجماعات المنضوية تحتها، فالدولة ليست حقيقة قَبْليّة (سابقة) مثلما يُفهِم المفكر عبد الاله بلقزيز حتى يستنتج وجودها الناس ويحولونها إلى خيار عقلاني، بمعنى أن لا فكرة عن دور الدولة ومؤسساتها ونظامها القانوني ووجودها في حفظ مصالح الأفراد والجماعات وأمنهم وصحتهم، دون تحقق هذه المؤسسات عمليًا، أي أن يكون لوجودها معنى داخل المخيال الاجتماعي حتى يستحضر أهميتها دائمًا، وهذه الأهمية تكمن في وجود الدولة لحماية مصالح الأفراد والجماعات الاقتصادية وتحقيق ضبط لتناسق حركة الاختلاف بينهم بما لا يضر بمصالحهم، دون هذا الشعور التي تكون مسؤولية إنتاجه على عاتق الدولة نفسها والنخب، فأنه يبقى هذا الحضور هو أشبه بهيكل خاوٍ من المعنى.
اقرأ/ي أيضًا: