عند لوحات الدلالة لمداخل المدن الصغيرة المترامية على جانبي الطرق الخارجية بين المحافظات الجنوبية، تصطف لوحات تشير إلى أضرحة لأولياء صالحين ينتهي نسبهم إلى أئمة أهل البيت، ويسند بناءها على مرويات شفاهية يتناقلها سكّان المناطق ليتأثر بها البسطاء في سياق الإيمان بالغيبيات واللجوء لها عند الملمات.
في الأضرحة المنتشرة يعود نسب أصحاب المقامات الذكور إلى موسى بن جعفر الكاظم فيما ينسبن النساء إلى الحسن بن علي بن أبي طالب
وغالبًا ما يعود نسب أصحاب المقامات من الذكور إلى الإمام الكاظم، موسى بن جعفر الصادق، فيما ينسبن النساء إلى الإمام الحسن بن علي بن أبي طالب، وساهمت عدة عوامل ـ بحسب مختصين ـ بمضاعفة أعداد المراقد خاصة بعد 2003، ومنها انهيار الدولة العراقية، فضلًا عن نمط نظام المحاصصة الذي يؤيد الأشكال التعبيرية التي تنمي الشعور الطائفي، بالإضافة إلى نفوذ الجهات الدينية في ظل هذا النظام، والتي يتاجر بعضها بالمراقد، حتى تحولت الكثير من المراقد إلى مصدر مالي كبير لهذه الجهات وللسدنة أحيانًا.
الطفل إمامًا
يمر بناء المرقد بمراحل عديدة، ويكون في مراحله الأولى ببناء صغير حيث لم يصل مرحلة الانتشار، وحينها تكون حكايته معروفة، فيما يتولى جيل الأبناء والأحفاد ممن عاصروه بناء المقام الشاخص ونسج القصص والمعجزات الموغلة بالتقديس والتعظيم، بالإضافة إلى الربط المباشر بأحد الأئمة، وإلى جانب أولاد الأئمة، هناك أضرحة لـ"السادة"، والذين عرفوا بالوجاهة لنسبهم المتصل بالنبي محمد، حتى تحولت أماكن غسلهم بعد موتهم إلى أضرحة تُزار، وتهدى لها النذور ويتبرك بها العامة من البسطاء، ويتولاه أولاد وأحفاد "السيد" ذاته.
اقرأ/ي أيضًا: الحطام العراقي المقدّس.. المزارات الوهمية أنموذجًا
يروي "أ، م" لـ"ألترا عراق"، واحدة من أغرب القصص لمرقد إحدى المحافظات الجنوبية، أن "منطقة ريفية وبدائية يسكنها البسطاء من معدومي الدخل، بالإضافة إلى بسطاتهم المعرفية، وعند تل أثري يعرف محليًا بـ"الإيشان"، كان هناك مرقدًا صغيرًا يزورنه نسوة قليلات من المنطقة، ويُقسم به الرجال في حديثهم، مستدركًا "لكن خلال فترة وجيزة برز وبدأ الكثير يزورونه، وسرعان ما تداول الجميع حالات الشفاء، والاستجابة، معتبرين إياها من بركاته، ليتحول إلى صحن أكبر وأضيف له قفص حديدي، بالإضافة إلى سياج خارجي".
أضاف "أ، م" الذي رفض الكشف عن اسمه لأسباب شخصية، أن "الجميع يتفق على رواية واحدة لهذا المقام، وهو أنه لطفل توفى في إحدى الحروب ما منع دفنه في النجف، أو في مقبرة الأطفال للمدن المجاورة، فقام أهله وهم من السادة، بدفنه خارج القرية على التل الأثري"، لافتًا إلى أن "هذه الرواية لا أهمية لها عند زواره، المهم أنهم يتبركون به ويأتون بالنذور طلبًا للحاجة".
لفت "أ، م" إلى أن "الكثير من المراقد في القرى والأرياف تعود في حقيقتها إلى قصص مشابهة، مستدركًا "لكن المخيال الاجتماعي هو من تداول قصص تقديسهم، وبمرور الوقت قد يقول الناس عن أضرحتهم إنهم أولاد أحد الأئمة".
الوقف الشيعي في عجز!
ترتبط المراقد المقدسة بحسب الهوية المذهبية إلى الوقفين الشيعي أو السني، وجميع المراقد المنتشرة في وسط وجنوب العراق يعتبر الوقف الشيعي هو المسؤول عنها، حيث يشترط تحقق مجموعة معايير للاعتراف بصحة المرقد، وتمنح وفقها امتيازات، فيما يقف عاجزًا أمام المراقد غير المعترف بها.
في حديثه لـ"ألترا عراق"، أشار مصدر في الوقف الشيعي إلى أن "العشرات من الطلبات ترد إلى الوقف بشأن الاعتراف والتحقيق بحقيقة المراقد"، مستدركًا "لكن قانونيًا يضع الوقف سلسلة ضوابط ومعايير تحدد حقيقة المرقد".
أضاف المصدر الذي رفض الكشف عن اسمه لأسباب تتعلّق بوظيفته، أن "أولى الخطوات في بحث حقيقة المرقد هي التواصل مع المجلس المحلي للمنطقة التي يقع فيها، بالإضافة إلى مجلس المحافظة لمعرفة مالك الأرض، مبينًا "نبحث في المكتبة الوطنية عن صاحب المرقد حسب ادعاء مقدم الطلب، فضلًا عن رأي الخبراء في الفقه والتاريخ والأنساب، حيث توجد لجنة خاصة في مديرية المزارات، بالإضافة إلى خبراء متقاعدين يقدمون خدماتهم لخبرتهم في هذا المجال، وكذلك يتمّ التحقيق في شاهدة القبر".
هناك العشرات من المراقد تم بناءها بدعوى رؤيا أحد المعصومين في المنام يطلب بناء مرقد من المتولي
تابع المصدر "رفضنا المئات من الطلبات بعد التدقيق والفحص، خاصة المراقد التي بُنيت على أساس الرؤيا، حيث هناك العشرات من المراقد تم بناءها بدعوى رؤيا أحد المعصومين في المنام يطلب بناء مرقد من المتولي"، لافتًا إلى أن "الوقف يتعامل وفقًا لإجراءات قانونية وإدارية بعيدًا عن الخلفيات الدينية والانتماءات، أو قدم المرقد وسعته، ونعتبر متابعة هذه المراقد وبيان صحتها واجبًا شرعيًا وقانونيًا وأخلاقيًا، خاصة وأنها تحولت إلى وسائل للربح والنصب على الفقراء والبسطاء باسم أهل البيت".
اقرأ/ي أيضًا: صراع طائفي على مراقد الموصل القديمة.. المنازل أهم أم المساجد؟
وبشأن الإجراءات المتخذة من قبل الوقف بحق المراقد الوهمية أوضح المصدر، أن "دور الوقف هو محدود بالتحقق من صحة المرقد، فيما يقف عاجزًا أمام المئات من المراقد الوهمية، ولا يملك القوة التي تؤهله لهدمها، خاصة وأنها تحظى بقدسية مجتمعية، وأي تعرّض لها يعني مواجهة مع الناس وهذا يحتاج لتظافر الجهود"، لافتًا إلى أن "الرقابة في نظام ما قبل 2003 كانت أقوى وأشد، حيث تمنع بناء أية مرقد دون موافقات، وإجراءات قانونية، بالإضافة إلى منع زيارته، واللجان المختصة كانت دقيقة وتتخذ إجراءات صارمة بحق الذين ينوون المتاجرة".
تجارة لا تبور
بالرغم من وجود ضوابط للتأكد من حقيقة المراقد، لكن ظاهرة جديدة بدت بالانتشار، وهي الادعاء برؤيا أحد الأئمة في المنام يطلب بناء مرقد، فيما تطور الأمر حتى تحوّلت الرؤيا إلى برهان للقداسة، ورأس مال لتجارة لا تبور ينال أصحابها بفضلها الشهرة والمال، حيث يدعي الكثير شفاءهم من المرض بعد رؤيا أحد الأئمة، ما يدفع البسطاء نحوهم للتبرك بهم وطلب حاجاتهم بواسطتهم، ولا يطلبون بالعادة أي مبلغ محدد، ويكتفون بما يمنح لهم من الآخرين.
على بعد 20 كم عن المدينة، وفي طريق نيسمي، تسير عشرات السيارات بشكل يومي نحو "العلوية" للتبرك، وقصتها ـ بحسب الناس ـ أنها كانت تعاني من مرض عضال عجز الطب عن علاجه، وبعد أن أصابها اليأس زارها في المنام أحد الأئمة وأجرى لها عملية جراحية شفيت على إثرها.
تقول أم علي وهي إحدى النساء التي زارت "العلوية"، إن "اكتظاظ النساء يجري بشكل دائم حول غرفة طينية يتم منها الدخول للعلوية، فيما تجلس واحدة من عائلاتها لتنظم الطابور وتطلق التوصيات بعدم الإطالة، والضغط عليها"، لافتة إلى أنها "كانت جالسة، ويبدو عليها الوقار والسكينة، تبادر إلى السؤال عن الحاجة، تدعي وتقرأ بعض الآيات القرآنية".
أضافت أم علي في حديث لـ"ألترا عراق"، أن "الرواية تتضارب بشأن العلوية وكيف شفيت من مرضها، وحول تفاصيل الرؤيا، حتى أن بعض النسوة يضيفن الكثير من التفاصيل دون شعورهن"، لافتةً إلى أن "الكثير يتحدث عن بركاتها، مستدركة "لكنني لم أر شيئًا ولم التق أحدًا حدث معه شيء، فيما تزدحم باحة المنزل بالهدايا والنذور فضلًا عن الأموال الكثيرة".
مراقد مضاعفة لبنات الحسن
لا تتصدى المؤسسة الدينية لهذه المراقد، ويخاف الكثير فيها من الاصطدام بما تشكل لدى الناس مؤخرًا حول هذه المراقد غير الحقيقية. حيث رفض أحد أساتذة الحوزة العلمية أن يكشف عن اسمه في حديث لـ"ألترا عراق"، قائلًا إن "موضوع الأضرحة والمقامات يعتمد بالدرجة الاساس على التاريخ، داعيًا لـ"مراجعة التاريخ بشكل دقيقة في ما يخص أولاد وبنات الأئمة والصحابة والتابعين".
أستاذ في الحوزة العلمية: أكثر من 17 مرقدًا لبنات الحسن في العراق، فيما لم تنجب زوجات الحسن غير ٥ بنات، ولم يذكر لنا التاريخ مروره بالعراق، أو مرور بناته
فيما يخص العلماء والسادة الذين ينحدر نسلهم بالتتابع حتى يرتبط بالنبي محمد، يقول الاستاذ، "هنا لا يوجد نص بضرورة بناء الأضرحة والمقامات، ولا يوجد إشكالًا من الناحية الشرعية، وكذلك أن دوائر الأوقاف لا تمانع في ذلك، ولا يوجد إجراءً معينًا من الناحية القانونية وأن لم يسجل لديهم".
اقرأ/ي أيضًا: "صراع طائفي" على إرث الأموات في الموصل.. كلٌ يدعي وصلًا بـ "بنات الحسن"!
لفت إلى أن "هذا الأمر فتح الباب للكثير من النفعيين الساعين لكسب المال، أو السلطة والجاه، حتى أصبحت القضية شبه مهنة ووسيلة للعيش لدى الكثير، وكذلك فتحت الباب أمام فقراء العلم والمعرفة من بسطاء الناس ليكونوا على صدارة المشروع "بناء وتأسيس مرقد أو مقام"، على أسس ظنية من قبيل رؤيا أو شفاء مريض أو مصادفة أخرى، فيصدق الناس بذلك".
تابع أن "الموضوع أصبح يشكل خطرًا كبيرًا على الدين والمجتمع، حتى أصبح الأمر محل استهزاء لكثير من أتباع ومعتنقي الديانات والمعتقدات الأخرى"، مضيفًا "أقولها عن دراية؛ إن من يبحث ويطلع على ما موجود من أضرحة ومقامات في العراق اليوم يصاب بالرعب والذهول لما يرى من كمّ هائل من التزوير والكذب والوهم في الكثير من المقامات والأضرحة".
يعتقد أستاذ الحوزة العلمية أن "أكثر من 80% من المقامات والأضرحة لا صحة لها، ولا فائدة من وجودها، وأن الوقف لديه العلم الكافي بهذا الموضوع"، مبينًا "على سبيل المثال يوجد في العراق أكثر من 17 مرقدًا لبنات الحسن بن علي بن أبي طالب، و بأسماء مختلفة، فيما لم تنجب زوجات الحسن غير 5 بنات، ولم يذكر لنا التاريخ مروره بالعراق، أو مرور بناته، وهذا طبعا يقلل من احتمالية دفنهن في العراق، فيكون الاحتمال بدفن بعض من الـ5، ولست في صدد التفصيل، إنما أردت البيان بهذا المثال عن كثرة التزوير والتحريف حتى وضعوا أسماء لاوجود لها أصلًا في التاريخ العربي، سميجة، وهيلة، وخضروات، والكثير".
فيما يؤكد أن "مئات الأسماء للأضرحة الوهمية قدمت إلى الوقف، ولا يوجد دليل وأثر لها في التاريخ أصلًا، ورفضت ولم تسجل في الوقف، إلا أنها بنيت، ولا زالت تزار من قبل البسطاء من الناس ولا زالت تدر على مؤسسيها بالنذور والهدايا من المال وغيره".
لفت الأستاذ إلى "وجود الكثير من الأضرحة، والمقامات بنيت وأصبحت مزارًا بلا حجة ودليل سوى أن رؤيا أتت لشخص، وأمرته بصورة من الصور أن يبني في هذا المكان ضريحًا أو مقامًا لهذا الاسم، ويربط بأحد المعصومين، فيبني البناء وسرعان ما يكون محلًا للزيارة والتبرك، واعتقد أنه ليس بحاجة إلى تسجيله في الوقف أو الاعتراف به لعلمه بعدم وجود أي إجراء معين للحد من هذه الظاهرة الخطيرة والمنتشرة في هذا الزمان بالخصوص".
مئات أسماء للأضرحة الوهمية قدمت إلى الوقف، ولا يوجد دليل وأثر لها في التاريخ أصلًا، ورفضت ولم تسجل في الوقف، لكنها بنيت، ولا زالت تزار من قبل العامة!
ويرى الأستاذ أن مسؤولية محاربة هذه المراقد هي مشتركة بين السلطات المعنية والمؤسسة الدينية المتمثلة بالمرجعية من خلال التنسيق بينهما، فيما أعطى مثالًا بـ"السيد محمد الصدر الثاني، حيث كان رأيه بمرقد علي بن الحسين في الحلة، وقال إنه وهمي وحرام زيارته، مستدركًا "لكن المرقد بقي لغاية الآن، والناس تزوره بصورة طبيعية، فيما كان السيد محسن الحكيم متعاون مع السلطات بفترة ما، وأعتقد في زمن عبدالكريم قاسم بهذا الخصوص، حيث يروى أن رجلًا أتاه وأخبره أن فاطمة الزهراء قد زارته بالمنام، وطلبت منه بناء مرقد لها، فرد الحكيم على الرجل ومن يصدقك في حياتك حتى نصدق رؤياك، وأمر بهدم المرقد بالتعاون مع السلطات".
وبحسب مراقبين، فأن الناس في ظل عجز الدولة عن توفير أبسط حاجاتهم في الحياة بالإضافة إلى الصحة والتعليم، سيلجأون دائمًا إلى المراقد الوهمية لأنها عزاء عن الحرمان الذي يعانون منه. الأمر الذي يشير له ذهاب الفقراء دائمًا لطلب الشفاء من الأمراض، بينما يذهب الأغنياء وغيرهم إلى مستشفيات الخارج للعلاج والخلاص من المرض.
اقرأ/ي أيضًا:
"الطب القرآني".. الجهل ومرجعياته الزائفة!
صور| النجف والكوفة قبل 100 عام.. هل شاهدت سور المدينة من قبل؟