30-يونيو-2019

مع انحدار المستشفيات والصحة في العراق لجأ الناس إلى ما يمسى "الطب البديل" (Getty)

تنتشر ظاهرة التطبب بالقرآن في بلادنا العربية انتشارًا ملحوظًا. وقد أعطت الفضائيات مساحة موسعة لهؤلاء "الأطباء" واستخدامهم القرآن لأغراض ربحية رخيصة، تحط من شأن القرآن أكثر مما ترفعه. وبعد أن صوروا لنا القرآن كمعجزة علمية، بقي لهم أن يصوروه كقاموس طبي، استنادًا إلى الآية القرآنية "وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا" (الإسراء/ 82). ومن المعلوم أن الشفاء المذكور هنا، هو شفاء إيماني مصحوب بدلالات معنوية ويبقى مرهونًا بالتجربة الشخصية التي لا يمكن تعميمها كنظرية علمية عامّة. ذلك أن التجربة المعاشة تؤكد لنا ذلك، فالذي يعاني من ضغط الدم، والسكري، والتهاب المفاصل، والبروستات، وتصلب الأوعية الدموية، وعجز القلب، لا يتطبب بالقرآن إطلاقًا، بل يذهب إلى طبيب مختص.

أعطت الفضائيات مساحة موسعة لهؤلاء "الأطباء" واستخدامهم القرآن لأغراض ربحية رخيصة، تحط من شأن القرآن أكثر مما ترفعه

 ومن يطلع على الكتب التي تؤكد على الشفاء بالقرآن سيرى الأعاجيب؛ فإذا أردت الدخول على سلطان جائر، ما عليك سوى قراءة بعض من آيات القرآن الكريم ليتم المطلوب. ونحن نعرف أن طغاة التاريخ لم تسقطهم الآيات القرآنية، بل أسقطتهم أسباب سياسية معروفة في سياقاتها التاريخية. بهذا الدليل يغدو استخدام الآية لإسقاط الظالم استخدامًا فوق التاريخ ولا تثبته التجارب السياسية. لقد أعطى المحتجون خسائر بالأرواح وهم يتظاهرون منذ سنين ولم يسقطوا شخصية سياسية واحدة فكيف بقراءة آية قرآنية يمكن أن يكون لها ذلك.

اقرأ/ي أيضًا: الحطام العراقي المقدّس.. المزارات الوهمية أنموذجًا

وقرأت أيضًا من يريد علاج البواسير ما عليه سوى قراءة آية الكرسي وكتابة حروفها بالزعفران والعسل، ثم يشربها، فسيشفى من هذا المرض، ومعلوم أن لا أحد عالج بواسيره بآية الكرسي، أو على الأقل يبقى مجهولًا لدينا. ومعلوم أيضًا أن الأئمة والأولياء الصالحين، والصحابة الأوائل، والتابعين، كانت أجسادهم تقطر دمًا أثر الجروح. وقد عانوا ما عانوه، فلم نسمع أحد منهم أن تطبب بالقرآن، أو انتصر في المعركة من خلال تلاوته لبعض الآيات. لقد أسّسوا إمبراطورية عظيمة بالدم والدموع: استثمروا شروط الحياة المادية مضافًا إلى صلابة إيمانهم، ليؤسسوا الحضارة العربية الإسلامية.

تنتابنا الحيرة عن السبب الذي يجعل الفقهاء يلوذون بالصمت على مثل هذه الظاهرة المؤلمة، والتي تجعلنا أضحوكة بين الأمم المتعلمة، في الوقت الذي نرى فتاوى التكفير والمحاكمة لا تعرف السكون من قبلهم فيما لو تصدّى أحد الباحثين للتشكيك ببعض الروايات وقراءتها على ضوء لحظتنا المعاصرة. ولا نعرف سبب سكوت الفقهاء المعتدلين عن ظاهرة "استخراج الجن" عن طريق القرآن، أو الادعاءات التي كثُرت في الآونة الأخيرة حول وجود ملائكة يحرسون الآيات. ويدعي هؤلاء الجهلة، أن الملائكة الموكولين بهذه الآيات يتصرفون حسب رغبة "الروحاني"!.

 الأسباب كثيرة لشيوع ظاهرة "الجهل المقدس" ومن ضمن أسبابها، هو توهم البعض أن القرآن الكريم يحوي بين دفتيه أنواع العلوم، بدليل الآية القرآنية "ما فرّطنا في الكتاب من شيء"، والآية بحسب تفسير صاحب الميزان (جزء- 20، صفحة-214)  تتكلم عن سياق آخر ذلك أن "ظاهر الآية من حيث وقوعها في سياق الآيات الواصفة ليوم القيامة أن الوحوش محشورة كالإنسان، ويؤيده قوله تعالى: "وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شيء ثم إلى ربهم يحشرون" الأنعام: 38.

يقول الطبري في تفسيره ( جزء-16، ص-132) " وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (38) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد: قل لهؤلاء المعرضين عنك، المكذبين بآيات الله: أيها القوم, لا تحسبُنَّ الله غافلا عما تعملون، أو أنه غير مجازيكم على ما تكسبون! وكيف يغفل عن أعمالكم، أو يترك مجازاتكم عليها، وهو غير غافل عن عمل شيء دبَّ على الأرض صغيرٍ أو كبيرٍ.. ومُثْبَت كل ذلك من أعمالها في أم الكتاب.. فالرب الذي لم يضيِّع حفظَ أعمال البهائم والدوابّ في الأرض، والطير في الهواء، حتى حفظ عليها حركاتها وأفعالها، وأثبت ذلك منها في أم الكتاب..".

وكما هو واضح أن الآية جاءت في سياق آخر تمامًا يختلف عن الذرائع التي يسوقها بعض الجهلة، وهو سياق إحصاء الحسنات والسيئات والجزاء طبقًا لها اعتمادًا على ما يُصطلح عليه في العقائد "اللوح المحفوظ".

 والسبب الآخر، هو تفشي ظاهرة العطالة الفكرية، والتقاعد الرسمي من قبل الفقهاء وتفرغهم إلى فتاوى الحيض والنفاس والمطهرات والنجاسات، بحسب الراحل محمد محمد صادق الصدر، تاركين الأولويات القصوى في حث الناس على البعد الأخلاقي الذي نادت به كل الأديان. غير أنهم - الأصوليون منهم بالتحديد- يتشبّثون بفتاوى التكفير، وإباحة دم المخالف المذهبي، ونشر الكراهية، وبث روح الإقصاء، وتنظيرهم للطائفة الحقّة. وبعد ذلك كله لا يحق لأي بشر كان أن يتفوه بنقد الظواهر السلبية، فسيجد سيف الإلحاد مشرعًا على عنقه. فعلى سبيل المثال: لا توجد مشكلة عند فقهاء السعودية في شرعنة العلاقات مع الكيان الصهيوني، وتنفيذ المشاريع السياسية للضغط على الفلسطينيين بصفقات مشبوهة، لكنّهم سيكفرون المسلم الذي يعتقد بزيارة القبور!. وفي الجانب الآخر، ثمّة فصائل سياسية مشاركة في حكومة الاحتلال والمحاصصة، لا يعنيها ما يحدث من ويلات للشعب العراقي؛ فالنقطة الأهم في ذهنية هؤلاء، هي تشريع زواج القاصرات والتركيز على حجاب الفتيات حتى لو كنّ في عمر الزهور.

ماذا ننتظر من نخبة سياسية تمثل أعلى سلطة في البلد أن تحتكم للعرف العشائري وتضرب القوانين المدنية عرض الحائط، في مثل هذا البلد ستكون الخرافات أرحم بما لا يقاس من هذا الانحطاط

على أي حال، بودي أن أضيف نقطة أخرى أظنها سببًا جوهريًا في انتشار الخرافات، وهي غياب المؤسسات. ماذا تنتظر في بلد ينحدر فيه التعليم إلى مستويات هابطة ولا تنطبق عليه المعايير الدولية، وتتحول فيه الجامعات إلى مطابع للشهادات. وماذا تتوقع من بلد تصل فيه أرقام الفساد إلى مستويات لم يألفها الناس منذ نشوء الدولة القومية، بمعنى أن المنهوب من الأموال العراقية لم يحدث له مثيل منذ ذلك الوقت. وماذا ننتظر من نخبة سياسية تمثل أعلى سلطة في البلد- وهي السلطة التشريعية- أن تحتكم للعرف العشائري وتضرب قوانين البلد المدنية عرض الحائط!. في مثل هذا البلد ستكون الخرافات أرحم بما لا يقاس من هذا الانحطاط، فالتعويذات القرآنية وفتاحو الفال ليسوا أخطر من رجل دين يغتال العقل والوجدان باسم السياسة.

 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

اغتيال العقلانية العربية

مدن العشوائيات "المقدّسة"