03-يونيو-2020

(ريم يوسف)

لا فرق بينك وبين الأيرلندي الأصهب في شوارع لندن الفقيرة، يحمل انجيلًا بيده وزجاجة بيرة في الثانية وعلبة سجائر في جيبه وحقيبة على ظهره، يجادل الوجود ويفكر كثيرًا، يصبغ بنزقه المارة والأرصفة والبنايات، ويستسلم نحوله في شسع معطفه للعدم. لا فرق غير أنك لا تمتلك جاذبية الأيرلندي في شوارع لندن الفقيرة، وعلى ظهرك حدبةُ خائفٍ ويداك خاليتين، وساقاك ترتجفان من الليل والتيه والأرصفة.

سيكون يومُك قاتمًا، يتعطل حاسوبك، تشف صورتك في عيون النساء، ويحادثك الآخرون أن تعتكف، ثم تجلدك الضوضاء والسببية، ثم تفكر بسوء الطالع، والقدر، والعظمة الزائفة، ثم تفكر بالكتابة فتتلعثم، وتتصدع بلاغتُك كلما ترددت بعبارة، وتغيب عنك المفردات، ثم تبحث عن نافذة للهروب ألا تُجن أو تنتحر، فتبدأ بالحلم، حلمُ يقظة، لا يفعل شيئًا غير التأكيد على عجز هذا الرأس، رأسك المحشو بالأفكار والجبن والتردد.

تكون أيرلنديًا، شعرُك أحمر ولحيتك طويلة وكثيفة، قامتك فارعة وظهرك مستقيم، في جيبك المنخوب سكين لا تجيد الهرب من ثقوب القماش، وعلى الرصيف تقرأ قصائدك الطوال وتجذب عاهرة تمنحك جنسًا فمويًا وشرجيًا مجانًا، وتشتري لك وجبة البيض والجبن وكأس شاي ساخنٍ، ثم تدعوك لغرفة كئيبة تبعد اثني عشر سلمًا عن الأرض، فلا تنام، تقرأ أناشيد مالدرورور طوال الفجر، ولا تبكي حين تحاصرك الوحدة، بل ترتقي السلم الثالث عشر وتفكر بسوء الطالع، تصل إلى السطح وتتعرى، هناك، وفقط هناك، تنام ساعتين، وتصحو وقد رقدت حمامة على إليتيك.

تحرك الحلم قليلًا:

ما زلت أيرلنديًا، لكنك حين تعريت في الطابق الثالث عشر لم تنم، وإن حرقتك عيناك، وغرز ضوء الفجر النافذ من نثير الغيم الرمادي رأسَك، تقف على السور الحجري القديم، تدخن سيجارة إلى نصفها وتنتحر.

وها أنت في الحلم تدرك ما وراء الموت، فأنت الإله هنا، والمهندس، ومخرج الفيلم الفريد، الفيلم الخالي من الهفوات في النص والتمثيل والصورة. تحتضنك العاهرة التي لم تعرف حين رافقتها في الأمس اسمها، لكنه لن يكون غير ماري أو روزي كسخرية من القدر، تبكيك على الرصيف، وتبكيك حبيبة قديمة بعد أن يركن سائق الأجرة أمام رأسك، وينفث دخان عادم السيارة السوداء في شعرك، تبكيك، وليس مهمًا من قال لها إن جسدك البارد العاري يجثم ميتًا قرب الرصيف، وتخبر أمك العربية في دبلن بموتك، ويشيعك الشحاذون والمشردون والعاهرات، وتقرأ رفيقتك الأخيرة قصيدة في جيب معطفك أمام تابوتك المصنوع من خشب الصندل في الكنيسة، تقرأها وتشتم المسيح -كما في القصيدة- وتنفجر بالضحك.

لسعة برد مكيف الهواء توقف الحلم، وتكبس موسيقى الفيلم الإنجليزي زر الصداع في رأسك، تغلق نافذة الحلم بعد النجاة من الجنون والانتحار، تنهي القصيدة، ترتدي بعض الثياب، تدخن سيجارة أخيرة، وتكمل الفيلم ثم تنام.

 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

حكمة الصوفيّ: أن تمضي وحيدًا

في البيت أنت

دلالات: