بعد حرب عام 1973 بين مصر وإسرائيل، اقتصرت المعارك العربية مع إسرائيل على لبنان وفلسطين، وصارت الحكومات العربية تكرر مفردة السلام عند كل ذكر للقضية الفلسطينية، رغم أنها تتناساها حين يتعلق الأمر بشعوبها ومصالحها الضيقة والقائمة على عدم المساس بالصنمين الأمريكي والإسرائيلي.
باتت الحكومات العربية تكرر مفردة السلام عند ذكر القضية الفلسطينية، في حين أنها تتناساها مع شعوبها ومصالحها
ربما شذ صدام حسين قليلاً، بإطلاقه 39 صاروخًا على إسرائيل خلال حرب الخليج، لينقذ ما يمكن إنقاذه من علاقاته مع دول الجوار العربي والإسلامي، لكن ذلك لم ينفع، وكانت نهاية صدام ونظامها الاستبدادي بقوة الـ"أبرامز" على الأرض والـ"بي 52" من السماء وتبعات كوارث الغزو الأمريكي اللاحقة.
اقرأ/ي أيضًا: بجاحة إسرائيل تحت رعاية واشنطن وخدمات الرياض.. ثلاثي يُهدد استقرار المنطقة
وخلال نحو نصف قرن من "السلام" العربي، لم تكن إسرائيل تنتظر ولادة طفرة وراثية جديدة بين الزعماء العرب، ليفتح النار على قلعتها الصغيرة في فلسطين المحتلة. كان العمل على جميع المحاور في إسرائيل مستمرًا على قدم وساق، ولا يترك صغيرة أو كبيرة دون المتاجرة بها واستثمارها، ومن أبرز هذه المحاور هو صناعة البروباغندا.
وصار من الغريب الآن اللقاء بعربي لا يعرف مهرجاً اسمه أفيخاي أدرعي، فهذا اللسان الآلي، يقفز من التلفاز نحو تويتر، ومن فيسبوك إلى إنستغرام، ومن العربية إلى الإنجليزية. يخرج لنا حتى في الأحلام، ليقول: "نحن الإسرائيليون مساكين والفلسطينيون الأشرار يحاولون إبادتنا". ويغني لنا تارة ويعزف على عدة أوتار عاطفية وتاريخية ودينية واجتماعية، لصناعة هامش من القبول به وبدولته في الأوساط الشعبية العربية.
وليس أدرعي سوى مثال واحد وبسيط على ماكينة هائلة وكبيرة توجهها إسرائيل إعلاميًا للعرب، فصفحة "إسرائيل تتكلم بالعربية" يتابعها على فيسبوك نحو مليون ونصف المليون عربي، لا تتوقف الصفحة عن الحديث في السياسة والتعليم والفن والطبخ أيضًا! بطريقة تنسي المتابع أو تستغفله بمصدر هذه التقارير والصور والمعلومات.
واتسع باب البروباغندا، وانبثقت صفحة إسرائيل باللهجة العراقية، لمد جسور مع من قاده كره صدام إلى كره فلسطين، وجهله إلى تصديق من يأكل "العنبة" العراقية، قد يحب العراق. أذكر مرة قال لي أحد الطلبة في كلية العلوم السياسية، إنه مناصر لإسرائيل، لكنه يجهل السبب الذي يجعله يقفز فرحاً كلما قرأ خبرًا مفاده أن صافرة إنذار انطلقت بالجنوب أو الشمال الإسرائيلي!
وضمن الحملة الإسرائيلية الموجهة نحو العراق، نشرت صحيفة يديعوت آحرونوت اليمينية الإسرائيلية في التاسع من حزيران/ يونيو الجاري، مقالة تتحدث عن شعبية المطربة الإسرائيلية الشعبية ساريت حداد في الأوساط العراقية، أصل الاسم سارة حوددطوف وهي من أصول يهودية قوقازية امتشقت لقبًا شرقيًا لعائلتها نظرًا للون الموسيقي الشرقي الذي تمتهنه.
وبحسب كاتب المقال، فإن "إحدى طالبات قسم اللغة العبرية في كلية اللغات بجامعة بغداد، قامت بترجمة أغانٍ للمطربة الإسرائيلية خلال حفل تخرج عام 2010، ما أثار الجمهور خلال الحفل الذي ضم طلبة من أقسام دراسية أخرى"، مبينًا أن "هذا التصرف الشجاع والطريقة التي استقبلت بها الطالبة، تشير إلى التغير الكبير في النظرة العراقية تجاه إسرائيل" وفق كاتب المقال دائمًا.
تعمل إسرائيل على تفعيل آلة البروباغندا نحو العراق لخلق حالة وهمية من السلام الزائف مع الشعب العراقي الرافض لإسرائيل
ويواصل الكاتب حديثه: "منذ ذلك الوقت، فإن عدد العراقيين الذين تواصلوا مع إسرائيليين، لا سيما على وسائل التواصل الاجتماعي، قد تزايد بشكل ملحوظ"، مستشهداً بأن "العراقيين أنشأوا صفحة على فيسبوك بعنوان السفارة الافتراضية لإسرائيل في العراق".
اقرأ/ي أيضًا: #من_بغداد_إلى_القدس.. عراقيون مع فلسطين في العالم الافتراضي أيضًا
ورغم أن صفحة "إسرائيل تتكلم بالعربية" قد روجت بشكل كبير للسفارة الافتراضية، إلا أن عدد متابعيها مستقر عند 1430 شخصًا فقط، ولا يعرف عدد عناصر المخابرات الإسرائيلية، والفضوليين بين هذا الرقم الضئيل. وينقل الكاتب عن وزير الخارجية الإسرائيلي، أنه "قام بإنشاء صفحة "إسرائيل باللهجة العراقية" على شرف منشئي صفحة السفارة الافتراضية".
ويلفت إلى أن "جمهور الصفحة الإسرائيلية تنحصر أعمارهم بين الـ18 و35 عامًا"، مبينًا أن هذا الجمهور "من المتعلمين، وأن 70% منهم يستخدمون أسماءً وصورًا حقيقية، ويعيش ثلثهم في بغداد".
ويصف المقال المنشور في يديعوت جمهور الصفحة بأنهم "شباب فاعلون سياسيًا واجتماعيًا، ويمثلون العمود الفقري للطبقة المتعلمة في العراق"، ويوضح أن "تعامل هؤلاء مع إسرائيل والإسرائيليين يتأتى انطلاقاً من التاريخ اليهودي في العراق، أو من إعجابهم بالنموذج الديمقراطي والليبرالي الإسرائيلي".
ويواصل المقال في الموقع الإسرائيلي خلط الأوراق لدرجة يظن قارؤه أن الشعب العراقي سيدافع عن إسرائيل إذا ما دخلت الأخيرة بحرب في المنطقة، وأن باقات الزهور بين العراق ودولة الاحتلال تشغل مكاتب الـ"DHL" بعمليات التسليم والاستلام. وبهذا تشارف عناصر المشهد الجديد على الاكتمال: نكبة عربية جديدة في توزيع جغرافي مغاير.
إذ ترن أصداء صفقة القرن، التي تنوي بيع القدس وأجزاء كبيرة من الضفة الغربية لإسرائيل، كما حق العودة وتقرير المصير أيضًا، خلف كل لقاء يعقده ولي العهد السعودي محمد بن سلمان مع زعيم عربي أو عالمي. هنا في العراق، الجميع يتحدث عن الخطر المحدق الذي تتعرض له كل من سوريا والأردن إضافة لفلسطين، وآخرون يتحدثون عن حدود عراقية إسرائيلية وشيكة خلال الأعوام القادمة.
وأشارت تقارير صحفية عدة عن توتر العلاقات الدبلوماسية بين السعودية والأردن بشأن الصفقة الشهيرة، لكن السعودية أعلنت بعد احتجاجات حاشدة في الأردن، تمكنت من إسقاط الحكومة، أنها ستقدم معونة للأردن قدرها ملياران ونصف المليار دولار، ما يقود إلى احتمالية وصول الطرفين إلى تسوية ما بشأن الصفقة، ما لا نأمل أن يكون نجح فيه الابتزاز السعودي للمملكة الأردنية الهاشمية.
وفي عودة إلى العراق، وإلى كانون الأول/ديسمبر 2017 تحديدًا، عندما أعلن ترامب اعترافه بالقدس عاصمة لإسرائيل، نواقيس الخطر دقت في العراق، وزعيم التيار الصدري الذي يصارع مجهولًا يحاول سرقة انتصاره الانتخابي، أعلن تشكيل "لواء مقدسيو الصدر"، وقال دون مواربة أو تلميح أو إشارة: "سأذهب لقتال إسرائيل إذا ما قامت الحرب ضدهم".
كانت الوجوه العراقية في ذلك اليوم، رغم انشغاله بمصائب تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، وأزمات البلاد السياسية، مخطوفة على نحو مغاير، وكان بكاء الرجال ظاهرة في ذلك اليوم، ومشهد لا يصعب رؤيته في الأماكن العامة، أما أغنية "زهرة المدائن" فكان صوتها يخرج من نوافذ العديد من السيارات العالقة في اختناقات العاصمة المرورية.
كل البروباغندا الإسرائيلية في العراق، مهما زادت خطورتها، ستصطدم بحقيقة أن حروب إسرائيل مع العرب لم تخل من الدم العراقي
ربما ستتم صفقة القرن السعودية الإسرائيلية، وربما لن تقوم حرب، لكن جميع البروباغندات الإسرائيلية في العراق مهما ازدادت خطورتها، ستصطدم بحقيقة مفادها أن الحروب الثلاثة الكبرى التي خاضتها إسرائيل ضد العرب في أعوام 1948 و1967 و1973 لم تخل من الدم العراقي، وأبناء الشهداء في هذه الحروب لن يعقدوا صداقة مع قتلة ذويهم، ما يجعل العراق طرفًا أكيداً في أي حرب قادمة ضد سرطان إسرائيل المتوغل في الجسد العربي.
اقرأ/ي أيضًا:
فلسطين في العراق.. هل يبني الحقد موقفًا إنسانيًا؟
ملف خاص: المؤشر العربي.. العرب أمة واحدة قلقة اقتصاديًا وفلسطين جوهرة قضاياهم