في سوريا على وجه الخصوص، بعد كل تقدّم ميداني ملموس تحقّقه قوّات "الدولة الإسلامية" الشهيرة بـ"داعش"، وكذلك بعد أن تفقد سيطرتها على مناطق معينة أمام قوات النظام أو حتى لصالح الوحدات الكردية، تعود إلى الواجهة التحليلات التي تحصر الظاهرة "الداعشية" في كونها إحدى صنائع المخابرات، سواء الإيرانية أو الأمريكية أو غيرها، بل يذهب بعضهم إلى ربطها مباشرة بمخابرات النظام السوري. ويرى هؤلاء أن الهدف من ظهور "داعش" ليس سوى تنفيذ أجندات من يقف وراءها من أجهزة أمنية، إقليمية أو دولية.
ثمة سيرة تطور تدريجي ومنطقي، أيديولوجيًا وتنظيميًا وميدانيًا، أنتجت ظاهرة "الدولة الإسلامية"
غير أنّ متابعة مسيرة التيارات السلفية الجهادية عمومًا، ومنظمتها الأشهر "قاعدة الجهاد" على نحو خاص، لا سيما فرعها العراقي الذي أسسه أبو مصعب الزرقاوي بعد الغزو الأمريكي للعراق، سيجد سيرة تطور تدريجي ومنطقي، أيديولوجيًا وتنظيميًا وميدانيًا، أنتجت ظاهرة "الدولة الإسلامية".
يتجاهل أصحاب التحليلات "المؤامراتية" أن ثمة أساسًا صلبًا من العقيدة تقوم عليه الحركات السلفية الجهادية. هذا الجانب العقائدي هو العامل الحاسم في استقطاب القسم الأكبر من منتسبي هكذا جماعات، وهو ما يجعل من الصعب والمستبعد أن تتمكّن أجهزة أمن وحكومات دول من "قيادة" تنظيم جهادي بشكل كامل ولو من خلف ستار، أو توجيهه مباشرة، أو حتى بطريقة غير مباشرة لكن مع تأثير حاسم. غير أنه من الممكن، في أوضاع معيّنة، أن تنجح مخابرات هذه الدولة أوتلك في إحداث خرق أمني في أحد مستويات قيادة التنظيم (و"داعش" ليس استثناءً)، ومن خلاله السعي إلى دفع بعض المجموعات التابعة له إلى القيام بعمل أو الامتناع عنه، خدمةً لمصلحة الطرف المخترِق.
خروقات أمنية كتلك، مهما اتّسعت، لا تلغي الجانب الأيديولوجي/ العقائدي الذي يسيطر على عقول المجاهدين، وقود المعارك والقوة الضاربة للتنظيم، والذي لا ينفكّ يدفع التنظيم في وجهته العدمية والإرهابية. على ذلك، يحصل أيضًا في إطار العمل لتحقيق الهدف، وتحت مسوغات وتبريرات أيديولوجية/ "شرعية" جاهزة وتحت الطلب، مناقلة الأولويات وتعديل سلّم ترتيب الأعداء مرحليًّا بغية الاستفادة من التوافق الظرفي في المصالح، الذي قد يحدث أحيانًا مع هذا "العدو" أو ذاك في جبهة هنا وأخرى هناك.
ما يظهر من توافقات بين "الدولة الإسلامية" وبين هذا الطرف الإقليمي وذاك، لا يكفي للقطع بأنّه شكل من أشكال "العمالة"
لعل من بين الأساليب الأنجع للمخابرات، توظيف خروقاتها الأمنية للتنظيم المعني في تثبيت "التوافقات الظرفية" المناسبة لها قدر الإمكان، بحيث تسعى من خلالها إلى التأثير على خطط التنظيم الاستراتيجية بما يضمن مصالحها، دون أن تنجح دائمًا. بالتالي، فإن ما يظهر من توافقات في المصالح بين "الدولة الإسلامية" وبين هذا الطرف الإقليمي وذاك، لا يكفي للقطع بأنّه شكل من أشكال "العمالة"، ولا يعني بالضرورة أنه ترجمة لتنسيق مباشر بين الطرفين رغم احتمالية ذلك. فلا بدّ من التمييز بين التوافق الظرفي بينهما، وبين الاستخدام الأداتي من قبل أحدهما (المخابرات) للآخر (داعش).
يبقى القول، إنّ الإصرار على استسهال رمي "داعش" وأشباهها من المنظمات الإرهابية في خانة العمالة واعتبارها مجرّد "أداة لتشويه الإسلام"، ينطوي على تجاهل مقصود لجانب هام من المعطيات التي تفسّر الظاهرة الجهادية في صورها الإرهابية التكفيرية. من أهمّها تعنّت القيّمين على الإسلام ورفضهم أيّ نقد أو مراجعة تطال النصوص "المقدسة"، وحتى ما تراكم عليها من شروحات وتفاسير. واستمرار رواج نصوص ومقولات إسلامية، بمضامين تحريضية، تحضّ على الكراهية واحتقار "الآخر" وتكفيره، بما ينتج عن ذلك كلّه من تطرّف وإرهاب.
لماذا إذًا اتّهام "المجاهدين" بالعمالة أو بتشويه صورة الإسلام ماداموا يزيّنون ما يقومون به ويبرّرونه دومًا بنصوص الإسلام المقدّسة، من القرآن والسنّة وفقه "علماء الأمة"، سواء بفهمهم الحرفي لها أو بتأويلها على نحو ما يخدم نهجهم؟!
اقرأ/ي أيضًا: