أكبر تحدي يواجه الديمقراطية المتعثرة في المنطقة العربية هو تسويق حالة الاستبداد بأشكال تعبيرية مختلفة. إذ تكون في بعض الأحيان آليات الديمقراطية، لكونها المرشح الجديد لتشييد دعائم الاستبداد، سواء كان استبداد الجماعة الضاربة بشوكة سلاحها وأموالها، أو استبداد الإقطاعيات السياسية التي تتفق على شكل سياسي "شبه ديمقراطي" تريد الاستمرار عليه حتى الموت. كما توفر الديمقراطية الكلاسيكية أرضية خصبة لحالة ما يسمّى بـ"دكتاتورية الأغلبية"، وقد جاءت هذه الأخيرة كالماء الزلال في صدور الطائفيين والقبليين؛ إذ لا تنظيمات تؤمن بالديمقراطية، ولا هموم تنطلق من المطالبة بالعدالة الاجتماعية دون أطر الهويات الفرعية المسيطرة على عجلة النظام وحركته ومؤسساته وخطابه العام.
يتم تسويق الاستبداد في العراق بآليات ديمقراطية.. إنه استبداد الجماعة الطائفية أو القبلية أو المناطقية، ومن يكون الأغلب هو الغالب!
في حالة العراق التوافقية، يسيطر على أذهان هذه الجماعات هاجس التمثيل وشبحه فقط. بكلام آخر، أن تضمن لنفسك وللجماعة التي تعتمد عليها الفوز بأكبر عدد من المقاعد ما دامت "الأغلبية" هي فرس الرهان في هذا النزال "الديمقراطي" شكلًا، والرجعي والاستبدادي مضمونًا.
ما هذه الحالة في العمق إلا أشد التمثيلات اقترابًا من ثقافة العصبيات الطائفية والقبلية منها إلى إيمان حقيقي بأسس الديمقراطية، التي من الممكن أن تخلق حالة من التنافس السياسي يكون أساسه خدمة الناس وتطوير الدولة. إنه منطق القوي المهيمن الذي يبسط نفوذه اعتمادًا على لي الأذرع، وإن كانت صياغاته السياسية تعتمد على شكل الديمقراطية، لكنها في العمق تتعكز على استفزاز الذاكرتين الطائفية والقبلية دون أي استقطاب عقلاني يعطي تصورًا حقيقيًا عن النظام الذي يسمى "ديمقراطي".
اقرأ/ي أيضًا: تشكيل حكومة العراق.. مائدة ملوك الطوائف المفتوحة
تعطي الأحزاب الحاكمة في العراق مؤشرًا واضحًا على تصدع ما يسمى بـ"الديمقراطية التوافقية". إذ يندر لحزب من هذه الأحزاب أن يستبدل رئيسه بالانتخاب، ذلك إن مبدأ البقاء حتى الموت على كرسي رئاسة الحزب هو الشكل التعبيري الأبرز لهذه الأحزاب التي لم تؤمن يومًا بالعملية الديمقراطية، ومن يريد السيطرة إلى الأبد على رئاسة حزبه، كيف يكون سلوكه ديمقراطيًا عندما يتسنم منصبًا رفيعًا بالدولة؟!.
لا تزال الأحزاب العراقية، وأمام العالم أجمع، تتبجح بأنها أحزاب تمارس اللعبة الديمقراطية. هذا على الرغم من حرصهم على دفع الجماهير واستفزاز ذاكرتهم الطائفية المتعبة من عقود من الاستبداد والاستعمار. فلا يوجد طوق نجاة لهذه الأحزاب سوى تضليل الجماهير بلعبة الاصطفافات في بيئة ملائمة لها، لأنها الضمان اللازم للصعود إلى هرم السلطة. أما حين تواجههم الأسئلة الكبرى بخصوص الفساد والخدمات والتنمية والتطور والاقتصاد الوطني والارتقاء بمؤسسات الدولة، فلا يوجد جواب غير حجّة "الإرهاب"، نافذة المنهزمين والذين فشلوا في إدارة الدولة والنهوض بها من ركام السلطة الواحدة وفوضى الاحتلال.
إن الضربة القاضية التي سددتها هذه التنظيمات الاستبدادية الوظيفية للعملية الديمقراطية، تمثلت في القضاء على الفعل الديمقراطي والمؤسسة الديمقراطية من خلال استخدامهما كمعاول هدم لأي حركة تنويرية/نهضوية تتقدم بالواقع.
بدأت هذه التشكيلات، ما قبل الدولتية بينما ترتدي قناع الدولة، بالهيمنة على السلطات الثلاث، ومن ثم تأسيس منظومة إعلامية تحاكي استبدادها بأشكال تعبيرية ملطّفة، من عيار يمكنك أن تختلف معنا، لكن شريطة أن يكون ذلك الاختلاف من داخل الهوية التي تخدمنا في الاصطفاف المكوناتي لا من خارجه. فما دامت السلطات الثلاث تحت هيمنتنا وكل شيء على ما يرام لك الحق في الاختلاف، أما أن يتحول الاختلاف إلى معارضة وطنية خارج فلك هذه التنظيمات المحكمة فهذه جريمة تعني أن هناك مؤشرًا لظهور حالة ديمقراطية "لا سمح الله!"، فتغدو حينئذٍ "ملعونًا" في قاموسنا الرجيم، لتتحوّل الديمقراطية في ذهنية هؤلاء إلى "طائفة حقة" وعقيدة صلبة وأصول مذهبية. مع هذا المد العجيب يغدو المعارض الحقيقي "خارج عن الملّة" وكافر بالطقوس السرّانية للطائفة الحق. هذا ما يكشف أسباب غياب المعارضة الحقيقية في داخل العملية السياسية العراقية، التي تحتفظ بحق الجماعة مع إنهاء حق الفرد وتدميره في حالة احتراب الهويات.
اقرأ/ي أيضًا: صفقة رئيس البرلمان العراقي.. انتصار للمحاصصة كما تشتهيها إيران!
لا يمكن العثور على أي نموذج من الممكن أن يصنع مناهج تتراكم في ما بعد لتصنع حالة سياسية لا تخضع أمام موجات الاستبداد في شغل هذه الأحزاب. إنها تبدع في إرساء "الحميميات" البطريركية بين الجماعات الطائفية والقبلية. لا تضامن وطني يجري على أساس الخصوصيات الثقافية المشتركة، هي ثقافة لا عقلانية تحتقر كل أشكال العلاقات القائمة على الواجبات والحقوق والتعددية والمساواة العادلة، وآخر همومها، هو الاعتراف بالمواطنة كمبدأ للتعايش المجتمعي، فذهنية "الراعي" هي الأصل في أدبياتهم، ويا ليتهم كانوا رعاة حقيقيين، بل رعايا من قبل دول الجوار، وهنا سر الأحجية!.
تحتقر الأحزاب العراقية كل العلاقات القائمة على "المواطنة" وترغب بالعلاقات القائمة على مبدأ التوزيع الطائفي وهذا لك وهذه لي!
كان المخلوع حسني مبارك يتأسف على الشعب المصري الذي لم يقدر "سنوات الخدمة" التي قضاها وهو يعيل هذا الشعب. ما هذا إلى من باب نظره لنفسه على أنه "الراعي"، فلا يحق لأحد العبث بـ"قطيعه". هذا "البارادوكس" غير المعقول هو تمامًا المنطق أمام الشعوب التي تعمل على الانعتاق من الاستبداد. بينما يشبه هذا المنطق، ما تقوله الأحزاب العراقية التي تريد من العراقيين أن يقدروا سنوات "الخدمة الجهادية" خارج العراق في أيام النظام السابق، بالرغم من أن دخولهم كان أمريكيًا. بالرغم من تحمل عراقيي الداخل سنوات الحصار والمحن دون أن يطالبوا بأي امتياز، أو يتم تعويضهم على الأقل بدولة كريمة تعمل على الاستقرار لا الانقسام!.
ثمة حقيقة مغلوطة نتداولها كثيرًا في أدبياتنا السياسية، وهي إطلاق كلمة "سياسي" على هذه الجماعات التابعة، والحقيقة إن السياسي هو من يقوم بتأسيس "بنية تحتية" صلبة للبناء والابتكار السياسي. فضلًا عن أنها أحزاب لا تعتمد في منهجيتها وسلوكها على التنافس الداخلي الحر في الفضاء الديمقراطي. كما أنهم مُسَيَّسون يعوزوهم القرار والاستقلال وشجاعة الانفكاك من الهيمنة الخارجية. ذلك إنهم، دائمًا وأبدًا، تحركهم التبعية وليس الهم الوطني أو الديمقراطي، ومن هنا نفهم لماذا ترتعب هذه الأحزاب من الفعل الديمقراطي. هذا مرده لرافدين، أولهما، كونها، أي الأحزاب العراقية، لا تمتلك ناصية القرار الحقيقي، وثانيًا، لأنها مُسيَّسة، تجلس على الكرسي وتتلقى الأوامر!، وتفتقر للهموم والرؤية والإيمان بالوطن ومشاريعه.
اقرأ/ي أيضًا: كلاسيكو الأحزاب الطائفية
تبقى العملية الديمقراطية في العراق بلا ديمقراطيين ودون تنظيم ديمقراطي يمكنه أن يساهم في تحويل الصراع مستقبلًا، وإنقاذ الديمقراطية من تشويه الأحزاب الطائفية. لازالت الطبقة السياسية الحاكمة فقيرة ببناة الدولة. فمفهوم السلطة وتضخيمها على حساب الدولة هو العنوان الأبرز الذي يترجم الثقافة التي يتحركون بها منذ أكثر من 15 عامًا.
الوعي بعملية المخاض هي أولى الخطوات، وبخلافها سيبقى العراق داخلًا بدائرة المجهول في ظل ديمقراطية بريمر سيئة الصيت والآثار!
في النظر لهذه الأحزاب يعتقد المواطن العراقي أن معاناته ستطول، للاستمرار بالتعثر في التجربة، فهذه الأخيرة لا تثمر شيئًا، والرهان على عملية المخاض وحدها لا تكفي، إذ يمكن أن يكون المخاض عقيمًا. لكن الوعي بعملية المخاض هي أولى الخطوات، وبخلافها سيبقى العراق داخلًا بدائرة المجهول في ظل ديمقراطية بريمر سيئة الصيت والآثار!.
اقرأ/ي أيضًا:
العشائرية في الانتخابات العراقية.. الديمقراطية أثاثًا وضيافة