23-يناير-2021

المؤسسة الأمريكية لم تسمح لترامب بالعبث مع النظام الديمقراطي (فيسبوك)

إذن، غادر دونالد ترامب البيت الأبيض ومعه أحلامُ الحمقى في مراكز قيادة بعض الدول العربية الذين كانوا يأملون بتوظيفه محاربًا عسكريًا ضد إيران، مقابل أموال وصفقات تجارية ترضي غروره أملًا بأن يرضي بدوره غرور الحكام الضعفاء المهزومين. كذلك أحلامُ المحبطين والطائفيين والمظلومين ومن عانوا من الهيمنة الإيرانية في المنطقة.

ما يجري تجاهله بغرابة هو قضاء ترامب على حالة الانقسام التي ولّدتها انتفاضة تشرين في السلطة

رحل ترامب لسببين لا ثالث لهما: لأن النسبة الأكثر من الشعب الأمريكي قررت إزاحته عن السلطة استنادًا إلى مصالحها الخاصة بالذات بعد تعامله السيء مع وباء كورونا، ولأن المؤسسة الأمريكية لم تسمح له بالعبث مع النظام الديمقراطي الراسخ عقب خسارته الانتخابات. والسببان لا علاقة لهما بسياسة ترامب في منطقتنا وردود الفعل عليها.

اقرأ/ي أيضًا: تنصيب بايدن.. أمريكا كانت وعودًا

في النقطتين المذكورتين المزيد من العِبر لنا في الوطن العربي لناحية عدم الشعور بالاغتراب بوجود جماعات بربرية تساند الطائفية المدعومة من أعلى، وكذلك في مواقف مايك بنس والكثير من أعضاء الحزب الجمهوري الذين استنكروا وأدانوا بأشد العبارات إقحام ترامب للجماهير في معركة لي الأذرع واستخدام الشارع ضد صندوق الانتخابات، وإنْ كانت تلك المواقف تمسكًا بالديمقراطية أو لعدم خسارة المزيد بسبب ترامب فهي بكلتا الحالتين دليلُ سيطرةِ الثقافة الديمقراطية والتبادل السلمي للسلطة على ذهنية النخب.

كُتب الكثير عربيًا عن رحيل ترامب بين مُعزَّ بخسارة "عدو إيران" وبين فرحٍ بزوال أحد أسباب تصاعد حدة الصراع في منطقتنا، لكن ما لم يُكتب عنه بشكل جدي، وهو ما يهمُنا في العراق، أثر ترامب الكبير على الانتفاضة الأكبر في تاريخ دولتنا الحديث.

وقف ترامب موقف المتفرج لما يحدث في العراق، وإنْ تحدثنا بلسان متظاهرين مشاركين في احتجاجاتٍ تطالب بالوطن (الدولة) والعيش الكريم، فبالطبع لسنا في صدد انتقاد موقفه؛ لكن تجاهله هذا لم يمنع النظام العراقي من اتهامه بدعم "الفتنة" بذات الطريقة التي اُتهم فيها سلفه أوباما، فعدم دعم ترامب لانتفاضة تشرين علنًا لم يغير من نوع الخطاب الذي وجّه سابقًا لأوباما الذي لم يُخفِ إعجابه بالثورات العربية ووصفها بـ"التحول المذهل".

تعني هذه المعادلة أنه لم يفعل شيئًا بسكوته؛ لكن الحقيقة أن ترامب فعل ما هو أسوأ بالنسبة للمحتجين حين قَلب اتجاه الريح رأسًا على عقب باغتياله قائد فيلق القدس ونائب رئيس هيئة الحشد الشعبي.

بدأت القوى الطائفية بخسارة حاضنتها الشعبية شيئًا فشيئًا بعد فترة قليلة على استعادتها خلال الحرب مع تنظيم داعش، وذلك بفعل الانقلاب على الخطابات بالتحالف مع قوى اتهمتها بالإرهاب، وحوادث كثيرة من جانب ما يسمى بمحور المقاومة كنقل عناصر التنظيم من حدود لبنان إلى حدود العراق، وغيرها من الصدمات التي أثّرت في وعي الناس وصولًا إلى انتخابات 2018 والسيطرة على مناصب ومفاصل اقتصادية باسم الشهداء والدماء ومحاربة الإرهاب، فكان الأول من تشرين الأول 2019 لحظة انفجار الغضب اتجاه نظام المحاصصة وإعلان انتهاء الحقنة الطائفية المخدِّرة.

كعادة غيرها من الانتفاضات والاحتجاجات، شقت "تشرين" النظام السياسي إلى قسمين: قسمٌ انحاز إلى الجماهيرصدقًا أو تملقًا، وقسمٌ ناضل من أجل الحفاظ على المنظومة بشخوصها وآلياتها حفاظًا على مصالحه التي ربطها بالمنظومة المستَهجنة من قبل المنتفضين ومسانديهم. في هذا الصدد، يقول المفكر عزمي بشارة إن بداية الإصلاحات – وهو يطلق على انتفاضاتنا ثورات إصلاحية – تتمثل بانشقاق النظام ذاته. ولقد بدت تلك الملامح مع انطلاق الاعتصامات في 25 تشرين الأول وما تلقته من دعم المؤسسة الدينية الكلاسيكية في النجف وبعض القوى الشيعية والسنية.

ما يجري تجاهله بغرابة هو قضاء ترامب على حالة الانقسام التي ولّدتها انتفاضة تشرين في السلطة. ليس بعيدًا أن تكون إيران وحلفاؤها في العراق قد بحثت عن جرّ الصِدام من شعبي – سلطوي إلى مناوشات مع الولايات المتحدة هربًا من حراكٍ اجتماعيٍ صادمٍ، مع ذلك؛ فأن الحدث الواقعي الذي لن يخطأه التاريخ هو رعونة شعبوي البيت الأبيض وعمليته المتهورة التي أراد من خلالها قطع الطريق أمام محاولات إفشال إعادة انتخابه لدورة الثانية لكنها أتاحت لقوى السلطة في العراق فرصة إعادة رص الصفوف ضد المتظاهرين وقوى التغيير، وفي نهاية المطاف، خسر هو السلطة وخسر المحتجون انقسام النظام.

ومنذ الثالث من كانون الثاني 2020 لم يعد للمحتجين ناصرًا من داخل النظام، وخصوصًا اللاعب الأقوى – التيار الصدري – الذي استشعر خطورة التطورات على مكانته هو في ظل إدارة أمريكية لا تتورع عن الحماقات ولا تأبه لأية اعتبارات تتعلق بموقف الدولة الأمريكية وتحالفاتها واستراتيجياتها في المنطقة. لقد كان تفشي فيروس كورونا هو الإكرام الذي دفن الجريح (الاحتجاج) الذي راح ضحية الصراع الأمريكي الإيراني، وبالأصح، الإرادة الإيرانية في إقحام العراق بصراعها مع ترامب وتعاطي الأخير الجنوني معه. لكن الكتبةَ والمعلقين يقفون عند التدخل الإيراني متجاهلين الفاعل الأساس في وأد الانتفاضة.

 أتاحت عملية المطار لقوى السلطة في العراق فرصة إعادة رص الصفوف ضد المتظاهرين وقوى التغيير

بإمكان المختلفين مع هذا الرأي طرح سؤالٍ حول مآلات الانتفاضة فيما لو لم يظهر الفيروس القاتل، وماذا حصل حين بدأت الحياة بالعودة إلى طبيعتها بعدها، عند ذلك ستكون صورة ما فعله ترامب أوضح للعيان.

 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

حين يحترق الهواء في واشنطن

حفل وداع ترامب.. جرد حساب ووعود بعودة