الهوية أحد أبرز تعبيرات الانتماء وتعريف الذات، وهي لا تدرك إلا من خلال إنتاج صور ذهنية تسبغ المعنى على الأشياء والظواهر وتؤسس معايير لفهمها من خلال ترتيب العلاقة بين عناصرها، بحيث تتضح الغاية منها.
السرديات التاريخية للهوية تبنى على أساس وقائع موروثة يتشكل منها مضمون الهوية
إن الواقع المتنوع هو منشأ الهويات والاختلافات، فضلًا عن الصدام، واستجابات الإنسان وتفاعله وإدراكه لهذا الواقع مختلفة، و هو ينشئ شبكة من المعاني والرموز و"طرق التفكير و الشعور والعمل" كما يقول دوركهايم، ليحدّد غايته وسلوكه. لكن المشكلة الأعمق أن "الإنسان كائن يتشبث بشبكة المعاني التي نسجها بنفسه"، على حد تعبير ماكس فيبر. وهذا التمسك يولد الانحياز لما يصنعه من معانٍ وطرق وتفكير، وهو ما يدفعه إلى منحها صفة السمو والقدسية في كثير من الأحيان ناسيًا مرجعيتها وأصلها ونسبها، كونها حصيلة تفاعل مع الواقع، وهذا الواقع دائم التغيير والتحوّل، وهو ما ينفي الثبات أو الجمود عن أي ثقافة وبالتالي أي هوية.
اقرأ/ي أيضًا: الكُفر بالدولة في العالم العربي.. العراق نموذجًا
إن السرديات التاريخية للهوية مبنية في الأساس على وقائع تاريخية موروثة يتشكّل منها مضمون الهوية، وبالتالي فهي ليست بناءً تاريخيًا ثقافيًا محضًا، بل هي بناء تتداخل فيه المنافع والمصالح و الآراء والنزاعات لبعض الطبقات والجماعات والفئات في المجتمع. كما يرى هابرماس أن "الهوية الثقافية ليست معطى أو جوهرًا محددًا مسبقًا، لكنها مشروع يتزامن بناؤه مع الوقائع والمستجدات".
الهوية هي حركة دائمة لتوليد الفوارق والاختلافات بالقدر الذي تولده أيضًا من المشتركات والائتلافات. حيث أن الإنسان بصفته فاعلًا اجتماعيًا ثقافيًا، يدرك، يتفاعل، يفعل. والفعل هو ذروة الإفصاح المادي عن الهوية. ولأن الأمر كذلك، لا يمكن إدراك الهوية من دون رؤية هذه الحركة الجدلية بين التصور الذهني والفعل العملي. وعلى سبيل المثال، في العراق وأغلب الدول العربية يُتخذ موقف العلمانية تجاه الدولة كهوية، ماذا يعني أن اسألك ما هويتك؟ لتقل لي أنا علماني!، أين فعلك العملي وتصورك الذهني عن ماهية الهوية؟.
لا تتشكل الهويات من العدم أو الفراغ، إنها حصيلة ديالكتيك اجتماعي وسيرورة بنائية باحثة عن التجانس والاندماج في إطار الجماعة، وهي إذ تنضج وتستكمل تشكلها، تستقر في الوعي الاجتماعي، حاملة السمات الأساسية التي تميّز الجماعة من غيرها، وهي سمات تتحدّد ضمن علاقات التماثل والاختلاف وتعكس ارتباط الإنسان بالآخرين وتميزه منهم في الوقت نفسه. وهي بقدر ما تكون تعريفًا للذات، تكون أيضًا تعريفًا تستدمجه الذات في علاقتها مع الآخر.
ما يحدث في العراق وغالبية الدول العربية، هو تأسيس وتعميم وعي هوياتي مزيف ومؤدلج، هدفه التعبئة والتحريض وبيان التمايز والخصوصية والاختلاف، وليس التحليل والتفسير والنقد وإعادة التشكيل وبناء الجسور والتواصل.
الذي يحدث في العراق هو تأسيس وتعميم وعي هوياتي مزيف ومؤدلج هدفه التعبئة والتحريض وبيان التمايز والاختلاف
هذا الوعي الهوياتي المزيف والمؤدلج أنتج لنا خطاب القطيعة، الذي قسم العالم إلى دار حق ودار باطل، في حين يأتي خطاب ثقافة العولمة الذي يتقاطع مع خطاب القطيعة المذكور آنفًا في تقديم رؤية تقوم على التجانس الثقافي، وتنبني على رؤية خلاصية للعالم، متمركزة على الذات، قابلة للتصدير والتعميم، ليقسم لنا هذا الخطاب المعولم بطبعته المؤمركة إلى محور للشر ومحور للخير. وكلاهما يقدم ديباجته القائمة على ادعاء المشروعية التي تلغي أو تقصي الآخر ولا تعترف به إلا كعدو. كلتا المقاربتين تدعي امتلاك الحقيقة، عبر سلطان العقيدة وإن اختلفت مرجعيتها، بين حاكمية إلهية فوق بشرية من جهة، وسلطان المال وسلطة السوق من جهة أخرى. العولمة تفرض لنا خيارًا مستحيلًا، أما التقليد الأعمى للغرب الذي يقطعها عن ثقافتها الخاصة، أما ثورة التشبث بالهوية التي تفصل هذه الشعوب عن الحداثة، هذه الثنائيات القبيحة التي لا يكاد الغرب أن ينقطع عن تقديمها إلينا.
اقرأ/ي أيضًا: عراق "المحاصصة" الطائفية وسلطة ضد الدولة
المفارقة في هذا الموضوع أن ما تصنعه هذه الخطابات من هويات وجماعات لا تتردد بأن تقاتل في سبيل ما تظنه حريتها، وتتمسك بما تعتقد، ولو أدى ذلك إلى تخريب حياتها وحياة الآخرين، والمشكلة لا تكمن بأن تتمسك بعض الجماعات فيما تعتقد، أو حتى أن تقاتل في سبيل حريتها، بل فيمن تقاتل وكيف تتمسك بما تعتقد دون إلغاء أو إقصاء للآخر.
إن العجز عن التعرف على "العدو" الحقيقي وليس الوهمي، هو الذي يؤدي نحو الانحراف وتبلور "وعي هوياتي مزيف ومؤدلج" ومصاب بالعطب البنيوي والعمى السوسيولوجي. وهذا العدو دائمًا يصبح "الآخر" ومحددات العداوة يفرضها الاختلاف ذاته. والمفارقة البائسة في هذه الحالة أن وجوده يصبح ضرورة حتى لو كان على شكل أشباح وأوهام مصنطعة، لأنها عداوة مفيدة ترسخ أواصر التضامن والوحدة داخل الجماعة.
المتابع للشأن العام والقارئ للتاريخ يعرف جيدًا حجم الهويات والتكتلات التي أنشأتها قوى الاستكبار العالمي بعد الحرب العالمية الأولى، التي أعادت رسم الخرائط الهوياتية والقومية من جديد. ومع هذه اللحظة الفارقة التي هيمنت بها القوى الغربية على أوطاننا انهارت صبغة الدولة - الأمة، بفعل التقسيم الهوياتي الممنهج، فضلًا عن الهويات الصلبة في العراق وغيره من الدول العربية التي تكوّنت في بداية القرن الحالي، هذه الهويات التي ترتكز على الطابع العرقي أو "الطائفي" أو الأثني.
لا تبنى الهوية الوطنية الجامعة إلا بوجود دولة قوية تكون قيمتها العليا هي العدالة الاجتماعية
صهر الانتماءات و"الهويات الثانوية" داخل صندوق الهوية الكبرى، الهوية الوطنية، هو الأمل المنشود لتكوين هوية جامعة تستوعب كل الطوائف والأعراق. وكل هذا يحدث بوجود دولة قوية، تكون قيمتها العليا هي العدالة الاجتماعية وسيادتها فوق كل شيء. لكن أين الدولة؟ هذا السؤال الذي لا يسأل عنه أحد، وإن سأل أحد فلا إجابة عنه في حمى المعركة "المحاصصاتية" في حيازة النفوذ على الدولة وهويتها وأنماطها في المجال العام.
اقرأ/ي أيضًا: