في بغداد، لا يمكنك الجزم أين هو مركز العاصمة بدقة، إذ يشطرها دجلة إلى جانبي الكرخ والرصافة، فيصبح مركزها منقسمًا على منطقتين هما المنصور في جانب الكرخ، والكرادة في جانب الرصافة. ورغم أن العاصمة تمتلك مركزي مدينة، إلا أنهما إذا اجتمعا بالمساحة وتعداد السكان لن يقتربا من حجم الحي الذي أصبح مدينة والقابع في الجانب الشرقي منها، مدينة الصدر.
يسكن في مدينة الصدر ما يعادل 4.5 مليون نسمة وهو ما يعادل أو يفوق قليلًا نصف سكّان العاصمة بغداد
هذه المدينة التي تنطوي على أكثر من ثمانين مربعًا سكنيًا أو ما يعرف محليًا بـ"القطاع"، يشغلها، بحسب مجلس محافظة بغداد 4.5 مليون نسمة، وهو ما يعادل أو يفوق قليلًا نصف سكّان العاصمة المقدر بين 8_ 8.5 ملايين نسمة.
اقرأ/ي أيضًا: العراق.. نمو سكاني يزيد أعداد الأرامل والأيتام
وتحمل مدينة الصدر العديد من الغرائب والتناقضات إلى جانب مساحتها وعدد نسماتها، إذ حظيت قبل اسمها الحالي باسمين سابقين، هما: مدينة الثورة أبان تأسيسها في زمن الرئيس الأسبق للعراق عبد الكريم قاسم، ومدينة صدام بزمن الرئيس الأسبق صدام حسين، كما اعتاد سكّانها أن يكونوا عرضة للاستصغار والمعاملة "الطبقية" غير المحترمة من باقي أحياء العاصمة لكونهم مهاجرين من مناطق ريفية إلى المدينة، واعتادت المدينة نفسها أن تصدّر الفنانين والأدباء والمثقفين في جميع الاختصاصات ولاعبي كرة القدم، والمقاتلين، كصورة أخرى للطبيعة المتناقضة لها.
وتتعرّض المدينة إلى تركيز من وسائل الإعلام بين الحين والآخر، لما تشهده من أحداث وظواهر مستمرة، لا تشبه الواحدة منهما الأخرى، ففي الوقت التي عرفت بأنها أول المدن الشيعية التي قاتلت القوات الأمريكية في العراق بعد الغزو عام 2003، وسيطر عليها "جيش المهدي" المتشدّد دينيًا آنذاك، وكانت مسرحًا مهمًا من مسارح الحرب الأهلية، فيما اتُهمت بأنها كانت منطلقًا للفن العراقي الهابط في جانبي الغناء والمسرح والذي عُرف خلال الفترة نفسها وما تلاها من سنوات.
وكانت آخر الظواهر التي احتضنتها مدينة الصدر، هو ما اشتهر منذ نحو عام بمصور حفلات الزفاف "زهير العطواني". إذ اعتاد على نشر مقاطع صغيرة من حفلات الزفاف التي يقوم بتصويرها في المدينة والتي تضم تفاصيل من حياة "العريس"، كتصويره أثناء الحلاقة وارتداء "بدلة العرس" وتصوير أصدقائه قبل الحفل وأثنائه.
يظهر العريس في فيديوهات "العطواني" وكأنه بطل قومي يحمل معه إرث القبيلة والعائلة بينما تغيب "العروس" عن هذه الفيديوهات كدلالة رمزية على وضع المرأة
وتظهر فيديوهات العطواني، مراهقين لا تتجاوز أعمارهم الـ18 يرتدون بدلات زواج ملونة ومحاطين بأصدقاء عادة ما يكونوا ذوي قصات شعر وملابس غير مألوفة، ما جعلهم عرضة للسخرية على نحو واسع جدًا في وسائل التواصل الاجتماعي. ورغم هذه السخريات لم يتأثر "العطواني" بذلك، بل على العكس استطاع أن يصنع شهرة لنفسه متعكزًا على جماهير من الساخرين، وهي آراء لا تشكل أي أهمية تذكر لزبائنه كما يبدو من استمرارية عمله، وتعليقات بعضهم على المنشورات الساخرة.
الباحث في علم الاجتماع علي كريم السيد تحدث لـ"ألترا عراق" عن ما يسمى بــ"ظاهرة العطواني"، مقسمًا الظاهرة إلى ثلاثة أقسام.
يقول السيد، إن "فيديوهات العطواني عن حفلات الزفاف، تعكس ظاهرة الزواج المبكّر في المجتمع العراقي. وخصوصًا لدى الطبقات الشعبية، حيث يكون الزواج بتوجيه ودعم العائلة".
أضاف السيد، أن "العرسان هم شبان صغار في السن غالبًا ليس لديهم مصدر دخل، وتظهر لنا مقاطع الفيديو أن الشاب سوف يعيش مع أهله بنفس المنزل، والبيوت هذه غالبًا ما يعيش تحتها عدة عوائل، مما يجعل المشاكل والتدخلات العائلية مفتوحة على مصراعيها مستقبلًا".
أشار السيد، إلى جانب آخر في ظاهرة العطواني، هو غياب "العروس"، قائلًا "يظهر العريس وكأنه بطل قومي يحمل معه إرث القبيلة والعائلة ويحمل سمعتها، بينما تغيب العروس عن المشهد ولا تظهر ابدًا، تبقى في الكواليس، وفِي المنهج التفكيكي العنصر الغائب هو رسالة أيضًا، فهي رمز الشرف المخفي عن الأنظار، حيث يحدث تقسيم جندري للمكان، رجال في الواجهة، نساء في الكواليس".
أما الجانب الثالث للظاهرة، بحسب السيد هو "صراع الهويات"، موضحًا ذلك بقوله، إن "حفلات الزفاف هذه تعكس صراع الهويات بين جيلين مختلفين في الثقافة والقيم، جيل يحمل التراث والحس التقليدي وجيل يحمل الحس العملي. جيل الحرب والفقر والحصار وجيل الإنترنت والفيسبوك، مشيرًا إلى أنه "لذلك نلاحظ وجود الزِّي العربي التقليدي جنبًا مع الزِّي الغربي الحداثوي".
تعكس حفلات الزواج التي يظهرها "العطواني" صراع الهويات بين جيلين مختلفين في الثقافة والقيم، جيل الحرب والحصار وجيل الإنترنت والفيسبوك
من جانب آخر، يتحدث المدوّن مهند الشايب لـ"ألترا عراق"، عن الأسباب التي دفعت شباب مدينة الصدر إلى أن يكونوا مثيرين للجدل بهذه الطريقة، مشيرًا إلى أن "الخلفية الثقافية للمدينة عشائرية جنوبية، إذ أن جل سكانها هم من النازحين من الريف الجنوبي إلى بغداد، وهذه الخلفية الثقافية رافقتها القيود الاجتماعية للمجتمع العشائري الجنوبي، واستمر ذلك حتى عام 2003، لتتبدل القيود على يد "جيش المهدي" الذي سيطر على المدينة وقوض قيود العشيرة، فارضًا بدلًا عنها قيوده الدينية الخاصة به".
اقرأ/ي أيضًا: يد القبيلة الخفية في العراق.. خزان السلطة الموازية
أضاف الشايب، أن "هذه الانتقالات الحادة في الطابع الاجتماعي للمدينة، تسببت بحالة من عدم الاستقرار النفسي للشباب، ومنحتهم دافعًا للتمرد على جميع القيود التي مروا بها، عشائرية كانت أم دينية، ما أدى إلى تطرف الكثير منهم بهذا التمرد، والخروج عن المألوف بأقصى الدرجات".
وحول الاتهامات بالمثلية التي وجهت إلى الشباب الظاهرين في فيديوهات "العطواني"، والذين قام بعضهم بوضع مساحيق التجميل واستخدام قصات شعر نسائية، يعلّق الباحث علي كريم السيد برفض هذه الادعاءات.
ويؤكد "لا أجد هناك علاقة بين الشكل والمثلية، واعتقد أن ما يقوم به هؤلاء الشباب هو محاولة للتمايز والبروز وأيضًا تقليدًا لنجوم الفن والرياضة، مبينًا أن "هؤلاء الشباب يفتقدون القدوة الحسنة ويحتاجون إلى تعامل خاص وتوجيه تربوي ثقافي وبرامج اجتماعية تستوعب طاقاتهم وترشدهم إلى الطريق السوي".
لكن المدوّن مهند الشايب، يرى أن "المثلية موجودة في مدينة الصدر وهي أقدم من العطواني وظاهرته".
استشهد الشايب، بالكاتبين عبد الله صخي الذي أرّخ لنزوح الجنوبيين إلى بغداد بكتابين هما "خلف السدة" و"دروب الفقد"، وبمقالات للكاتب سلمان كيوش عُنونت بـ"نهاية تيل"، تضمنت ذكرًا لعدد من الحوادث المثلية في المجتمع المحلي.
للمثلية في مدينة الصدر جذور قديمة وهي ظاهرة سابقة للعطواني وأرّخ لها الكثير من كتّاب المدينة
من الجدير بالذكر أن مدينة الصدر، عانت اضطهادًا شديدًا خلال فترة التسعينات من قبل النظام السابق لحزب البعث، كونها كانت إحدى مناطق المعارضة لنظام البعث بقيادة المرجع الأعلى آنذاك محمد محمد صادق الصدر، والذي أعدمه نظام البعث وسميت المدينة بعد عام 2003 على اسمه، كما أنها تعاني بعد تغيير النظام من واقع خدمي سيء يتسبب بغرق المدينة بالسيول الطينية كل شتاء، وتردي خدمة الكهرباء فيها خلال الصيف، بسبب الكثافة السكانية المرتفعة فيها إضافة إلى إهمال الحكومة لها، مثلها مثل الكثير من المناطق في بغداد.
اقرأ/ي أيضًا: