23-يناير-2022

لا الديمقراطية ولا شيء آخر يمكنه أن يكبح هذا الجنون نحو السلطة (فيسبوك)

"أكثر مصارع الرجال تحت بروق المطامع". علي بن أبي طالب

كل من يطلّع على أحداث التاريخ سيجد أن خراب الدول ونهاية الإمبراطوريات الكبرى كان سببه تلك "الديانة المقدسة" التي يدين لها معظم البشر بكل صنوف الطاعة، وأعني بها السلطة. ذلك الوثن المقدس، المعبود الأسمى، الذي قُدِّمت له ملايين القرابين البشرية، وتلاشت من أجله الكثير من الممالك، ولا زال الكثير منّا يخفي هذا الحنين ويحاول إظهاره بطرق تعبيرية شتى، وتبريرات واهية لغرض شرعنته، ذلك أن كل شيء مباح لو تعلّق الأمر بالسلطة.

لا الديمقراطية ولا شيء آخر يمكنه أن يكبح هذا الجنون نحو السلطة حتى لو احترق العراق من شماله إلى جنوبه

وحين تتصفح كتب التاريخ ستقف كل الأحداث أمامك شاخصةً وتبيّن لك مقدار هذا العطش المخيف نحو السلطة. لقد ملكت الإمبراطورية المغولية المرعبة مساحات شاسعة من هذا الكوكب، لكن في نهاية أيامها وقعت فريسة صراع الأمراء على السلطة، فتمزّقت هذه الإمبراطورية الشاسعة وانتصرت لديانتها المُقَدَّسَة. أمّا حضارتنا العربية الإسلامية فهي مليئة بالاضطرابات والحروب. لا أعني بها حروب الفتوحات، فهذا موضوع آخر، بل أعني تلك الحروب التي كانت تحدث بين الوزراء، والأمراء، وقادة الجند، والخلفاء، من أجل التربّع على عرش السلطة، والفوز بهذا النعيم.

اقرأ/ي أيضًا: عُتاة قريش المُبجّلون دائمًا

لقد دفعت حضارتنا العربية الإسلامية ثمنًا باهظًا جرّاء هذا الاقتتال الأحمق، وتفتت هذه الحضارة العظيمة إلى دويلات وسلطنات، مرّة باسم الثورة على الظلم، وأخرى باسم الاستحقاق والمشروعية، وثالثة باسم الغَلَبَة والقهر، كالدولة البويهية في بغداد وفارس، والدولة الفاطمية في مصر وشمال أفريقيا، والدولة الحمدانية في الموصل وسورية، ودولة الأدارسة في المغرب. كل هذه السلطنات أو الدول ظهرت بعد ضعف الدولة العباسية أو نتيجة لسياساتها المجحفة. وما يهمنا هو هذه النقطة: الصراع المحموم على السلطة وانشغال الخليفة بملذاته تاركًا أمر إدارة السلطة بأيد الفرس تارة والأتراك تارة أخرى. وكان ما يهمه هو البقاء على العرش فحسب، بمعنى أن يحافظ على ديانته المقدسة، وكل شيء ما عدا ذلك هيّن، حتى لو سقط مجد الإمبراطورية، إذ يكفي أن يبقى خليفة المسلمين اسمًا بلا مضمون.

والشيء المٌرِوّع أن تتهاوى إمبراطوريات وممالك، وينتهي تاريخَ أممٍ بأكملها من أجل هذا النزوع الشديد نحو السلطة. يمكننا أن نكتب أكثر من مقالة حول طبيعة الصراع، وعدد الانقسامات الداخلية التي عانتها الإمبراطوريات، فأحداث التاريخ تتمتع بغنىً وخصوبة من هذا الجانب. وهل التاريخ سوى ذلك الصراع، وتلك الأمجاد الشخصية، والاقتتال المرعب حول هذا الوثن المقدس: السلطة؟

لذلك أميل لهذا الرأي، أنه ما من وثنٍ حظي بتلك العبادة المقدسة مثلما حظي به وثن السلطة، ولعله الوثن الوحيد الذي لم يستطع أحد تهديمه إلا أفراد قلائل. تشير الآية القرآنية إلى هذا الوثن المقدّس "أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ"، فأله الهوى يمكنه أن يسقط إمبراطورية بأكملها! لأنّه المعبود الأسمى وبه يستعين السياسيون لقضاء حوائجهم. ثم يحلو لهم بعد ذلك كله أن يستثنوا أنفسهم من كل هذا الخراب.

إن كان ثمّة شيء علّمنا إيّاه التاريخ هو لعبة الاستثناء؛ كل أمةٍ، وكل الطغاة، يعتبرون أنفسهم استثناءً من هذه العبرة، فهم من هذه الناحية مرآة عاكسة لهذه الآية"كلما جاءت أمةٌ لعنت أختها". وهل ثمّة لعنة تساوي لعنة الاستثناء التي يلعبها الطغاة دومًا لتبرير دوافعهم الوحشية نحو السلطة ؟ فهم من هذه الناحية ورثة أمناء في نقل هذه اللعنة إلى الأجيال اللاحقة، وفي العراق لازال التوارث يجري على قدم وساق.

 أتذكّر كيف كان حسني مبارك يتأسف على ما حدث له من قبل المصريين، وأنهم لم يقدّروا ما فعله لهم. فالرجل أراد أن يستثني نفسه من زمرة المستبدين، وأنه لم يكن عابدًا للسلطة، فثلاثين سنة أو أكثر لا تعني شيئًا للحكّام العرب.

 المهم في الأمر، لو ذكّرتَ السياسيين بتلك الأيام وتقلّباتها وماذا حدث للماضين، سيهز رأسه متفقًا معك، لأنه مٌستثنى من ذلك كله مثلما يتوهم، بل تراه يتعوّذ كثيرًا من شيطان السلطة. وما من سياسي شارك في خراب العراق إلا وفي أعماقه يقين راسخ من أنه استثناء من ذلك كله. ربما لو خرج الطغاة من قبورهم اليوم سيندهشون عن حجم الاتهامات الموجهة لهم وسيلقون عليك خطبًا عصماء من التبرير والاستثناء. وكل ذلك يحدث لغرض المماطلة والتمويه على الذات لإقناعها بأننا استثناء من هذا العطش القاتل نحو السلطة!

 ولو فرضنا أن عدد السياسيين الذي شاركوا في العملية السياسية خمسة آلاف، سيجيبك هؤلاء بذات النبرة التبريرية، كما لو أنها قطعة إنشائية حفظوها عن ظهر قلب أو جينات متوارثة بين هؤلاء العبيد. لكنّ التاريخ سيكتب ما قدموا بالتفصيل، وستقرأ الأجيال اللاحقة حجم الخديعة التي مورست علينا مهما كان عبيد السلطة يجيدون لغة التبرير.

 فلنستدرك قليلًا ونقول إن الصراع في التاريخ على السلطة أمر عادي في زمن لم تكن هناك مؤسسات ديمقراطية تحد من هذا الجشع القاتل نحو السلطة. أمّا في لحظتنا المعاصرة، وفي العراق بالتحديد، لا الديمقراطية ولا شيء آخر يمكنه أن يكبح هذا الجنون نحو السلطة، حتى لو احترق العراق من شماله إلى جنوبه. بل ستظهر لنا ديمقراطية تشبه مسخ فرانكشتاين، وستجد كل شيء فيها ما عدا الديمقراطية!

 

 

 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

الدين ضحية السلطة

التلوّث النفسي في بيئة الإسلام السياسي