20-مايو-2019

فوزي كريم (فيسبوك)

يقول الحديث النبوي: (لله كنوز تحت العرش مفاتيحها ألسنة الشعراء) في إشارة إلى المكانة العظيمة التي يتحلى بها الشاعر الحقيقي، ودوره اللامحدود في إضفاء المعنى إلى الحياة، ولذلك كان هذا الحديث شعار الرابطة القلمية التي أسسها الشاعر المهجري جبران خليل جبران.

من خلال نصوص فوزي كريم الشعريّة ترى صوتَ الإنسان المُستلَب مِن قبل مَن سمّاهم المغول الجدد، الذين انتهكوا منطقته السكنية "العباسية"

يبدو أنّ الحديث عن مكانة الشاعر أمرٌ هين، إذا ما قيس بالحديث عن الأثر الذي يتركه موته، كيف لنا أنْ نصف هذه اللحظة، وهذه الروح الشفافة التي عرجت بخفة دون أي ضجيج أو صخب، فهل نقول "موت الشاعر حياته" أو نردد ما قاله أدونيس "موت الشاعر قصيدة أخيرة تتوهج كضوء أخير".

يقول الروسي ميخائيل ليرمنتوف، في رثاء الشاعر بوشكين: "كلُّ نُوَاحٍ الآن عَقيم/ وَفَارِغةٌ تَراتِيلُ الإطرَاء/ وَهَمهَمَات الأسَى الكَسِيح/ ونحنُ نُحملقُ في إرادةِ الموت"

اقرأ/ي أيضًا: وفاة الشاعر والناقد العراقي فوزي كريم

باختصار كل أقلام الشعراء تعجز أنْ تصف لنا لحظة موت الشاعر، ذلك الملاك الغامض الذي يحمل روح شفيقة جعلت صاحبها غريبًا عن عالمه، لذلك تراه يخلق ويطرح الأسئلة الكبرى عن معنى الوجود، ويحمل في ذات الوقت معوًلا كبيرًا ينشد فيه تحطيم التابوهات والأيديولوجيات، بالإضافة إلى مساهمته في نشر الجمال، فلولا الشعر لأُصبنا جميعًا بالسكتة القلبية"، كما يقول لويس أَراغون.

غادر عالمنا قبل أيام الشاعر والناقد والرسام العراقي فوزي كريم 1945 – 2019، بعد صراع طويل ومرير مع المرض عن عمرٍ ناهز الرابعة والسبعين، مملوءة بالعطاء والجراح، تلك التي نتجت عن فراق وطنه، فمات غريبًا بعيدًا في العاصمة البريطانية لندن كما تنبأ في احدى قصائده التي قال فيها "آه يا صوت بلادي/ آه لو ازرع في خديك قبلة / صدقيني يا بلادي / إنّ في دمعة عينيك ضياعي".

الشاعر والناقد والموسيقي فوزي كريم (فيسبوك)

رثاه الكاتب والناقد العراقي محمد غازي الأخرس في حسابه على "فيسبوك" حيث قال: "يا للخسارة، يا للحزن، رحل فوزي كريم، الشاعر والناقد والكاتب. نسيج وحده، لا يشبه أحدًا ولا يشبهه أحد. لم تخدعه الأيديولوجيات، ولَم يغره لمعان الحداثة. العميق ذو الصوت الآسر الذي يرتل أفكاره ترتيلًا حزينًا لأجل فوزي كريم وأشعر أنّ ركنًا من أركان الثقافة العراقية انهدم الْيَوْمَ".

ولد فوزي كريم في بغداد عام 1945، أكمل فيها دراسته الجامعية، ثم هاجر إلى بيروت، ليعود إلى بغداد مرة أخرى سنة 1969، لكن لم يستقر حاله فيها ليهاجر إلى لندن موطن إقامته والتي وافاه الأجل فيها شأنه شأن الكثير من المبدعين العراقيين الذين لفظهم وطنهم بسبب حكامه الذين لا يقيمون وزنًا للفن والجمال.

اقرأ/ي أيضًا: لمن يكتب الشعراء؟

فيما عرف فوزي كريم بأسلوبه الشعري الفريد وقوة حضوره في المشهد الثقافي العراقي، الذي رفده بأكثر من أربعين مؤلفًا تراوحت بين الدراسات النقدية والدواوين الشعرية والقصص الروايات منها:

"عثرات الطائر" 1983، "مكائد آدم" 1991، "لا نرث الأرض" 1988، "قارات الأوبئة" 1995، "قصائد مختارة" 1995، "قصائد من جزيرة مهجورة" نشرت ضمن الأعمال الشعرية 2000 التي صدرت في جزأين عام 2001، "السنوات اللقيطة" 2003، "آخر الغجر"2005، "ليلُ أبي العلاء". وفي النثر النقدي أصدر، قصص “مدينة النحاس” 1995، كتاب "ثياب الإمبراطور: الشعر ومرايا الحداثة الخادعة" 2000، "العودة إلى گاردينيا" 2004، كتاب "يوميات نهاية الكابوس" 2004، كتاب "تهافت الستينيين: أهواء المثقف ومخاطر الفعل السياسي" 2006. وفي مجال النقد أصدر مجلته الفصلية اللحظة الشعرية.

كتاب فوزي كريم "القلب المفكر" (فيسبوك)

يقول الناقد محمد فاضل حول نصوص فوزي كريم الشعرية: "تملّكتني لغته، وصوره، وانزياحاته، رأيت من خلال نصوصه الشعريّة صوتَ الإنسان المُستلَب مِن قبل مَن سمّاهم المغول الجدد، الذين انتهكوا منطقته السكنية "العباسية". ثم أجدهُ يواصل الإنصات شعريًا لنفسه وهي تجول بين عالمي التوت والدفلى، فبقيت قصيدته تداعبُ ذهن القارئ، فهي "تغني وتفكّر"

الشاعر اللامنتمي

يقول فوزي كريم في أحد حواراته "اكتفيت بصفة الشاعر الذي لا انتماء له"، لذلك نراه يتعامل باحتراز مع الأفكار التي يراها قد تتحول إلى عقيدة مقدسة مع مرور الأيام، فليس هناك فكرة مقدسة بحسب فوزي كريم فهو يعتقد أنّ "متاهة الحيرة هي أكثر اتساعًا ورحابة من دائرة اليقين، ثقافتنا أعلت من شأن الفكرة، ورفعتها إلى مستوى القداسة وصار الإنسان مجرد أضحية لهذا المقدس"، وحتى مشروع فوزي كريم النقدي نحى هذا المنحى حيث حاول تخليص الشعر مما علق فيه من شوائب الشكلانية والميل العضلي، في موروثه وحداثته، وما استحوذ عليه من قوى الأفكار المتعالية والعقائدية التي تؤدي إلى المهالك وتصنع المثقف المتطرف.

الشاعر الشاهد على عصره

يقول الدكتور حسن ناظم في مقال مطوّل عن فوزي كريم: "لقد ملأ فوزي مريم الأفقَ كتابةً غزيرةً في الشعر والنقد والتشكيل والموسيقى. وحدها مطولتُهُ "قارات الأوبئة"، بكلا نصّيها العربي وترجمتها إلى الإنجليزية التي نهض بها عباس كاظم، ستقف شاهدًا مطلقًا على ما حدث من كارثة على العراق، وستبقى أبدًا تشير إلى الفكرة المدمرة، في ثقافتنا".

عرف فوزي كريم بأسلوبه الشعري الفريد وقوة حضوره في المشهد الثقافي العراقي، الذي رفده بأكثر من أربعين مؤلفًا تراوحت بين الدراسات النقدية والدواوين الشعرية والقصص الروايات

حيث شخص فوزي كريم أسباب هذا الدمار حينما زار بغداد ورأى حجم الخراب بنفسه فهي لم تعد المدينة الجميلة التي عرفها من قبل وظل يحن إلى وصالها، فقال كلمته الشهيرة "بغداد خربتها الأيديولوجيا" ويضيف "أصحاب العقائد يريدون إعادة صياغة الناس والمدن على هواهم، يتدخّلون حتى في تفاصيل الحياة اليومية... حتى الشاعر الذي لا ينتسب إلى حزب أو تيار ديني، ويعتقد أنه أفلت من وطأة العقيدة، قد لا يعرف أنّ حماسته المتطرفة تجاه الحداثة جعلته من حيث لا يعي يتعامل معها كأيديولوجيا، ويقيس علاقته بالعالم وبالآخرين على أساسها، فيقسمهم أنصارًا وأعداء".

عن الثقافة العربية والمهرجانات الشعرية

يقول فوزي كريم إنّ "الثقافة العربية خرجت منها العجائب، وهذه العجائب هي وليدة ضيق الأفق، وموت الثقافة، التي تأثروا فيها بالفرنسيين مثل البنيوية، وما بعد البنيوية، وما بعد الحداثة، والتفكيكية، وقصيدة النثر، مع أنّ هناك فيها كُتاب رائعين لكنها رغم ذلك تعد عينة من الأشياء التي خرجت من مرحلة الانهيار، بحسب فوزي كريم. 

إما عن المهرجانات الشعرية، فيرى فوزي كريم أنّ المهرجانات الشعرية، واحدة من ظواهر الانهيار الثقافي الذي حدث في العالم العربي، فالسلطة العراقية في زمن البعث هي من تبنت "مهرجان المربد" وبعدها السلطات الأخرى التي بدأت تلتفت إلى أهمية وضرورية هذه المهرجانات، حتى يجمعون الشعراء في بوتقة ويجعلوهم ينشدون للجماهير، كان قبل هذه الظاهرة الكتاب هو سيد الموقف، لأنه صلة الوصل الأساسية والحقيقية والمعتمدة حتى للنقاد، بشكل أساسي، وحينما جاء المهرجان، بدأ الكتاب يذبل، صرنا نحتاج الشاعر الذي نراه عبر المهرجان عبر برامج التلفزيون ولا تذهب إلى كتابه إطلاقًا".

عن الشعر والموسيقى

يرى فوزي كريم أنّ هناك نوعًا من التواشج بين الشعر والموسيقى، ويعتقد أنّ الموسيقى تضيف إلى القصيدة أعظم المنافع واسماها، خصوصًا فيما يتعلق في بناء النص الشعري، فقام بتأسيس مكتبة موسيقية كلاسيكية بالإضافة إلى أنه لم ينقطع من الإصغاء والقراءة والكتابة في الشأن الموسيقي حيث إنّ أحد كتبه يحمل عنوان "الموسيقى والشعر".

 والشاعر الحقيقي عند فوزي كريم، هو من يبحث عن نقاط اللقاء بين الفنون جميعًا ويزاوج بينها.

فوزي كريم: أنا شاعر ورسّام، ومتذوق للموسيقى، وكاتب عنها. ومن يقرأ شعري من دون أنْ يلتفت إلى الشاغل الموسيقي فقد يفقد الكثير من عناصره

يقول فوزي كريم في أحد حواراته: "أنا شاعر ورسّام، ومتذوق للموسيقى، وكاتب عنها. ومن يقرأ شعري من دون أنْ يلتفت إلى الشاغل الموسيقي فقد يفقد الكثير من عناصره".

"يا وطني الهاربَ خذني، فأنا مثلك هاربْ

عاشرني الحبُّ فضيَّعني

لكني لم القِ الحبلَ على الغاربْ،

لم أمسحْ من عتباتِ البابِ حصى الغائبْ.

يا وطني، الغربة، يا وطني

تمرٌ.. ورغيفٌ.. وأموتُ"

فوزي كريم/ في إحدى قصائده (1968).

 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

خالد علي مصطفى.. انطفأت شمعة حيفا في بغداد

الشعر روح الرفض في زمن الاستبداد

دلالات: